وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

(من بطون أمهاتكم) المراد الأرحام؛ لأنها في البطون، والمظروف في مظروف يعتبر مظروفاً، كما لو قلت: في جيبي كذا من النقود أو في حافظتي كذا من النقود .. العبارتان معناهما واحد.
وأمهاتكم: جمع أم، والقياس يقتضي أن نقول في جمع أم: أمات ولكنه قال:

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ....... (78)
(سورة النحل)


بزيادة الهاء. وساعة يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية، فكل أجهزته تابعة لأمه .. فإذا شاء الله أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة .. وعند الولادة نرى أطباء التوليد يقولون: الجنين في الوضع الطبيعي أو في غير الوضع الطبيعي .. فما معنى الوضع الطبيعي للجنين عند الولادة؟
الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولادة إلى أسفل، هذا هو الوضع الطبيعي؛ لأن الحق سبحانه أراد أن يخرجه خلقاً آخر:

.....ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ ......(14)
(سورة المؤمنون)


كأنه كان خلقاً لكنه كان تابعاً لأمه فيخرجه الله خلقاً آخر مستقلاً بذاته .. فتكون الرأس إلى أسفل، وهي أول ما ينزل من المولود وبمجرد نزوله تبدأ عملية التنفس.
ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه، وبالتنفس تكون له ذاتية، فإذا ما تعسر خروج باقي جسمه فتكون له فرصة التنفس وهذا من لطف الله سبحانه؛ لأن الجنين في هذه الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه.
أما إذا حدث العكس فكان الرأس إلى أعلى، ونزل الجنين بقدميه، فبمجرد نزول الرجلين ينفصل عن أمه، ويحتاج إلى حياة ذاتية ويحتاج إلى تنفس، فإذا ما تعسرت الولادة حدث اختناق، ربما يؤدي إلى موت الجنين.
العلم أخذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها وعليها دليل؛ وقوله تعالى:

......لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ......(78)
(سورة النحل)


ذلك لأن وسائل العلم والإدراك لم تعمل بعد، فإذا أراد الله له أن يعلم يخلق له وسائل العلم، وهي الحواس الخمس: السمع والبصر والشم واللمس والتذوق، هذه هي الحواس الظاهرة التي بها يكتسب الإنسان العلوم والمعارف، وبها يدرك ما حوله.
وإن كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواس الأخرى، ففي علم وظائف الأعضاء يقولون: إنك إذا حملت قطعتين من الحديد مثلاً فبأي حاسة تميز بينهما من حيث الثقل؟
هذه لا تعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوق أو الشم .. إذن: هناك حاسة جديدة تميز الثقل هي حاسة العضل.
وكذلك توجد حاسة البين، التي تتمكن بها من معرفة سمك القماش مثلا وأنت في محل الأقمشة، حيث تفرك القماش بين أصابعك، وتستطيع أن تميز بين الرقيق والسميك. فالطفل المولود إذن لا يعلم شيئاً، فهذا أمر طبيعي لأن وسائل العلم والإدراك لديه لم تؤد مهمتها بعد. وقوله تعالى:

....... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ....َ (78)
(سورة النحل)


وقد بين لنا علماء وظائف الأعضاء أن هذا الترتيب القرآني للأعضاء هو الترتيب الطبيعي، فالطفل بعد الولادة يسمع أولاً، ثم بعد حوالي عشرة أيام يبصر .. وتستطيع تجربة ذلك، فترى الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولادته، ولكن إذا وضعت أصبعك أمام عينيه لا يطرف؛ لأنه لم ير بعد.
ومن السمع والبصر ـ وهما السادة على جميع الحواس ـ تتكون المعلومات التي في الأفئدة، هذا الترتيب القرآني الوجودي، وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلم الحديث. ونلاحظ في الآية إفراد السمع، وجمع الأبصار والأفئدة:

..... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ... (78)
(سورة النحل)


فلماذا لم يأت السمع جمعاً؟
المتحدث هنا هو الحق سبحانه؛ لذلك تأتي الألفاظ دقيقة معجزة .. ولننظر لماذا السمع هنا مفرد؟
فرق بين السمع وغيره من الحواس، فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع، فليس في الأذن ما يمنع السمع، وليس عليها قفل نقفله إذا أردنا ألا نسمع، فكأن السمع واحد عند الجميع، أما المرئي فمختلف؛ لأننا لا ننظر جميعاً إلى شيء واحد .. بل المرائي عندنا مختلف فهذا ينظر للسقف، وهذا ينظر للأعمدة .. إلى آخره.
إذن: المرائي لدينا مختلفة .. كما أن للعين قفلاً طبيعياً يمكن إسداله على العين فلا ترى، فكأن الأبصار لدينا مختلفة متعددة.
وكذلك الحال في الأفئدة، جاءت جمعاً؛ لأنها متعددة مختلفة، فواحد يعي ويدرك، وآخر لا يعي ولا يدرك، وقد يعي واحد أكثر من الآخرين.
إذن: إفراد السمع هنا آية من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز؛ لأن المتكلم هو رب العزة سبحانه.
ونلاحظ أيضاً تقديم السمع على باقي الحواس؛ لأنه أول الإدراكات ويصاحب الإنسان منذ أن يولد إلى أن يفارق الحياة، ولا يغيب عنه حتى لو كان نائماً؛ لأن بالسمع يتم الاستدعاء من النوم.
وقد قلنا في قصة أهل الكهف أنهم ما كان لهم أن يناموا في سبات عميق ثلاثمائة وتسع سنين إلا إذا حجب الله عنهم هذه الحاسة، فلا تزعجهم الأصوات. فقال تعالى:

فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
(سورة الكهف)


أي: قلنا للأذن تعطلي هذه المدة حتى لا تزعجهم أصوات الصحراء، وتقلق مضاجعهم، والله تعالى يريد لهم السبات والنوم العميق. وفي قوله تعالى:

..... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ .... (78)
(سورة النحل)

هل توجد هذه الإدراكات بعد الإخراج (الميلاد) أم هي موجودة قبله؟ .. يجب أن نفرق بين السمع وآلته، فقبل الإخراج تتكون للجنين آلات البصر والسمع والتذوق وغيرها .. لكنها آلات لا تعمل، فالجنين في بطن أمه تابع لها، وليست له حياة ذاتية، فإذا ما نزل إلى الدنيا واستقل بحياته يجعل الله له هذه الآلات تعمل عملها.
إذن: فمعنى:

..... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ ... (78)
(سورة النحل)


أي: جعل لكم الاستماع، لا آلة السمع. وقوله:

.... لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
(سورة النحل)


توحي الآية بأن السمع والأبصار والأفئدة ستعطي لنا كثيراً من المعلومات الجديدة والإدراكات التي تنفعنا في حياتنا وفي مقومات وجودنا، وننفع بها غيرنا، وهذه النعم تستحق منا الشكر. فكلما سمعت صوتاً أو حكمة تحمد الله أن جعل لك أذناً تسمع، وكلما أبصرت منظراً بديعاً تحمد الله أن جعل لك عيناً ترى، وكلما شممت رائحة زكية تحمد الله أن جعل لك أنفاً تشم .. وهكذا تستوجب النعم شكر المنعم سبحانه.
ولكي تقف على نعم الله عليك انظر إلى من حرموا منها، وتأمل حالك وحالهم، وما أنت فيه من نعم الحياة ولذاتها، وما هم فيه من حرمان. ثم ينقلنا الحق سبحانه نقلة أخرى في قوله تعالى:

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)