وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد والأيمان، ولا يوفون بها، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريطة بنت عامر، وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر، ثم تأمرهن بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصرأورده القرطبى فى تفسيره ، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة.
أولاً: ما الغزل؟
الغزل عملية كان يقوم بها النساء قديماً، فكن يحضرن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو الوبر ومثل القطن الآن، وهذه الأشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لآخر يسمونها التيلة، فيقولون "هذه تيلة قصيرة" وهذه طويلة".
والغزل هو أن نكون من هذه الشعيرات خيطاً طويلاً ممتداً وانسيابياً دون عقد فيه لكي يصلح للنسج بعد ذلك، وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل. تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات الدقيقة ثم برمها بالمغزل، ليخرج في النهاية خيط طويل منساب متناسق لا عقد فيه.
والآية هنا ذكرت المرأة في هذا العمل؛ لأنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال، فكانت المرأة تكن في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكون منها أثاث بيتها من فرش وملابس وغيره.
وإلى الآن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة ومعترك الاختلاط، نراها تقوم بمثل هذا العمل النسائي.
وقد تطور المغزل الآن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة، مما ييسر للنساء هذه الأعمال، ويحفظهن في بيوتهن، وينشر في البيت جواً من التعاون بين الأم وأولادها، وأمامنا مثلاً مشروع الأسر المنتجة حيث تشارك المرأة بجزء كبير في رقي المجتمع، فلا مانع إذن من عمل المرأة إذا كان عملاً شريفاً يحفظ عليها كرامتها ويصون حرمتها.
فالقرآن ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهلية، هذا العمل الذي يحتاج إلى جهد ووقت في الغزل، ويحتاج إلى أكثر منه في نقضه وفكه، فهذه عملية شاقة جداً، وربما أمرت الجواري بفك الغزل والنسيج أيضاً؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش. وقوله:

.....مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ...(92)
(سورة النحل)


كلمة قوة هنا تدلنا على المراحل التي تمر بها عملية الغزل، وكم هي شاقة، بداية من جز الصوف من الغنم أو الوبر من الجمال، ثم خلط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات، بحيث تكون طرف كل تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتم التلاحم بينها بهذا المزج، ثم تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط، ولو قارنا بين هذه العملية اليدوية، وبين ما توصلت إليه صناعة الغزل الآن لتبين لنا كم كانت شاقة عليهم.
فكأن القرآن الكريم شبه الذي يعطي العهد ويوثقه بالأيمان المؤكدة، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلت هذا الغزل، وتحملت مشقته، ثم راحت فنقضت ما أنجزته، وفكت ما غزلته.
وكذلك كلمة (قوة) تدلنا على أن كل عمل يحتاج إلى قوة، هذه القوة إما أن تحرك الساكن أو تسكن المتحرك؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى:

..... خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ....(63)
(سورة البقرة)


لأن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه، ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه. وهذه يسمونها في عالم الحركة (قانون العطالة) المتحرك يظل متحركاً إلى أن يعرض له شيء يسكنه، والساكن يظل ساكناً إلى أن يعرض له شيء يحركه.
ومن هنا يتعجب الكثيرون من الأقمار الصناعية التي تدور أعواماً عدة في الفضاء: ما الوقود الذي يحرك هذه الأقمار طوال هذه الأعوام؟
والواقع أنه لا يوجد وقود يحركها، الوقود في مرحلة الانطلاق فقط، إلى أن يخرج من منطقة الهواء والجذب، فإذا ما استقر القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرك بنفسها دون وقود، فهناك الشيء المتحرك يظل متحركاً، والساكن يظل ساكناً

والحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذا المثل المشاهد يحذرنا من إخلاف العهد ونقضه؛ لأنه سبحانه يريد أن يصون مصالح الخلق؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيمان التي تبرم بينهم، فمن خان العهد أو نقض الأيمان لا يوثق فيه، ولا يطمأن إلى حركته في الحياة، ويسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس. وقوله:

...أَنْكَاثًا ..... (92)
(سورة النحل)


جمع نكث، وهو ما نقض وحل فتله من الغزل. وقوله:

....تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ..........(92)
(سورة النحل)


الدخل: أن تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغش والخداع، كأن تدخل في الذهب عيار 24 قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار 18 قيراطاً، أو كأن تدخل في اللوز مثلاً نوى المشمش على أنه منه. فكأن الأيمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغش، فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به.
وقوله:

..... أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ....(92)
(سورة النحل)


هذه هي العلة في أن نتخذ الأيمان دخلاً فيما بيننا، الأيمان الزائفة الخادعة؛ ذلك لأن الذي باع نوى المشمش مثلاً على أنه لوز، فقد أربى أي: أخذ أزيد من حقه ونقص حق الآخرين، فالعلة إذن في الخداع بالأيمان الطمع وطلب الزيادة على حساب الآخرين.
وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى، كأن تعاهد شخصاً على شيء ما، وأديت له بالعهود والأيمان والمواثيق، ثم عن لك من هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالإغراء، فنقضت العهد الأول لأن الثاني أربى منه وأزيد.
وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حذره، فمن يدريك لعله يفعل بك كما فعلت، ويكال لك بنفس المكيال الذي كلت به لغيرك، فأحذر إذا تجرأت على خلق الله أن يجرئ الله عليك من يسقيك من نفس الكأس.
وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة، فإياك أن تغش الناس، وتذكر أن لك عندهم مصالح، وفي أيديهم لك حرف وصناعات، فإذا تجرأت عليهم جرأهم الله عليك؛ لأنه سبحانه يقول: أن القيوم، أي: القائم على أمركم، فناموا أنتم فأنا لا أنام، فهذه مسألة يجب أن نلحظها جيداً.
من تجرأ على الناس جرأهم الله عليه، ومن أخلص عمله وأتقنه قذف الله في قلوب الخلق أن يتقنوا له حاجته. وقوله:

....إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ .... (92)
(سورة النحل)


أي: يختبركم الله تعالى بهذا العهد، فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أن عقدتم العهد، أفي نيتكم الوفاء، أم في نيتكم الغدر والخداع؟
وهب أنك تنوي الوفاء ثم عرض لك ما حال بينك وبينه، فالله سبحانه يعلم حقائق الأمور ولا يخفى عليه شيء.
إذن: الابتلاء هنا لا يعني النكبة والبلاء، بل يعني مجرد الاختبار والنكبة والبلاء على الذي يفشل في الاختبار، فالعبرة هنا بالنتيجة. وقوله:

.....وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
(سورة النحل)


فيوم القيامة تجتمع الخصوم، وتتكشف الحقائق، ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في الدنيا، وهب أن إنساناً عمى على قضاء الأرض في أشياء، نقول له: إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء، وانتظر يوماً نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل
أخرج مسلم فى صحيحه -كتاب الأقضيه من حدكيث ام سلمه رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم تختصمون الىّ ولعل لعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض فاقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قطعت له من حق اخيه شيئا فلا ياخذه فانما اقطع له به قطعة من النار".
ثم يقول الحق سبحانه

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)