فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)

الاستعاذة: اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافه، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم، ولا تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرت في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك.
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان، وما له من مداخل للنفس البشرية فلا حول لك ولا قوة في مقاومته إلا أن تلجأ إلى الله القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان، وهو القادر وحده على رده عنك؛ لأن الشيطان في معركة مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة.
وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى، فقال:

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
(سورة ص)


فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء، ما عليك إلا أن ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به، فهو سبحانه القوي القادر على أن يدفع عنك ما لم تستطع أنت دفعه عن نفسك، فلا تقاومه بقوتك أنت؛ لأنه لا طاقة لك به، ولا تدعه ينفرد بك؛ لأنه إن انفرد بك وأبعدك عن الله فسوف تكون له الغلبة.
ولذلك نقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا حول: لا تحول عن المعصية. ولا قوة. أي: على الطاعة إلا بالله.
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلاً قد يتعرض لمن يعتدي عليه من أمثاله من الصبية، أما إذا كان في صحبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أن يتعرض له، فما بالك بمن يسير في صحبة ربه تبارك وتعالى، ويلقي بنفسه في حماية الله سبحانه؟!

<وفي مقام الاستعاذة بالله نذكر قاعدة إيمانية علمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: "من استعاذ بالله فأعيذوه">
أخرجه احمد فى مسندهوأبوداود فى سننه والنسائى فى سننه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه"

فيلزم المؤمن أن يعيذ من استعاذ بالله، وإن كان في أحب الأشياء إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا القدوة في ذلك، حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن نساءه غرن منها، وأخذن في الكيد لها وزحزحتها من أمامهن حتى لا تغلبهن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف لهن ذلك؟
حاولن استغلال أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غرة، تتمتع بسلامة النية وصفاء السريرة، ليس لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه لؤماً أو مكراً، وهي أيضاً ما تزال في نشوة فرحتها بأن أصبحت أماً للمؤمنين، وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستغل نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله، وقالت لهن إحداهن: إذا دخلت على رسول الله فقولي له: أعوذ بالله منك، فإنه يحب هذه الكلمة.
أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلامة النية، ومحبة لرسول الله، وحرص على إرضائه، وقالت له: أعوذ بالله منك، وهي لا تدري معنى هذه العبارة فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد عذت بمعاذ الحقي بأهلك"
أخرجه البخارى فى صحيحه وابن ماجه فى سننه من حديث عائشه رضى الله عنها.
أي: مادمت استعذت بالله فأنا قبلت هذه الاستعاذة؛ لأنك استعذت بمعاذ أي: بمن يجب علينا أن نتركك من أجله، ثم طلقها النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لهذه الاستعاذة.
إذن: من استعاذ بالله لابد للمؤمن أن يعيذه، ومن استجار اله لابد للمؤمن أن يكون جندياً من جنود الله، ويجيره حتى يبغ مأمنه. وفي الآية الكريمة أسلوب شرط، اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى:

....َ فَاسْتَعِذْ ....(98)
(سورة النحل)


فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، كما لو قلت: إذا قابلت محمداً فقل له كذا .. فلا يتم القول إلا بعد المقابلة. أما في الآية الكريمة فالمراد: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ؛ لأن الاستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة، كما جاء في قوله الحق تبارك وتعالى:

. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ....(6)
(سورة المائدة)


فالمعنى: إذا أردتم إقامة الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وكذلك إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن القرآن كلام الله.
ولو آمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة أخرى، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة:
أولها: استحضار قداسة المنزل سبحانه الذي آمنت به وأقبلت على كلامه.
ثانيها: استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزل عليه.
ثالثها: استحضار عظمة القرآن الكريم، بما فيه من أوجه الإعجاز، وما يحويه من الآداب والأحكام.
إذن: لديك ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم، وكل منها عمل صالح لن يدعك الشيطان تؤديه دون أن يتعرض لك، ويوسوس لك، ويصرفك عما أنت مقبل عليه.
وساعتها لن تستطيع منعه إلا إذا استعنت عليه بالله، واستعذت منه بالله، وبذلك تكون في معية الله منزل القرآن سبحانه وتعالى وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقاً، ومع استقبال ما في القرآن من إعجاز وآداب وأحكام.
ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن.
ومع ذلك لا مانع من حمل المعنى على الاستعاذة أيضاً بعد قراءة القرآن، فيكون المراد: إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله .. أي: بعد القراءة؛ لأنك بعد أن قرأت كتاب الله خرجت منه بزاد إيماني وتجليات ربانية، وتعرضت لآداب وأحكام طلبت منك، فعليك ـ إذن ـ أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسد عليك هذا الزاد وتلك التجليات أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام.
وقوله تعالى:

... مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
(سورة النحل)


أي: المعلون المطرود من رحمة الله؛ لأن الشيطان ليس مخلوقاً جديداً يحتاج أن نجربه لنعرف طبيعته وكيفية التعامل معه، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلام. وقد حذر الله تعالى آدم منه فقال:

....يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ..... (117)
(سورة طه)


وسبق أن رجم ولعن وأبعد من رحمة الله، فقد هددنا بقوله:

....ِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ .... (62)
(سورة الإسراء)


إذن: هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خلق الإنسان، وإلى قيام الساعة. ثم يقول الحق سبحانه

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)