وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

قوله: (بدلنا) ومنها: أبدلت واستبدلت، أي: رفعت آية وطرحتها. وجئت بأخرى بدلاً منها، وقد تدخل الباء على الشيء المتروك، كما في قوله تعالى:

..... أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .....(61)
(سورة البقرة)


أي: تتركون ما هو خير، وتستبدلون به ما هو أدنى. وما معنى الآية؟ كلمة آية لها معانٍ متعددة منها:
ـ الشيء العجيب الذي يلفت الأنظار، ويبهر العقول، كما نقول: هذا آية في الجمال، أو في الشجاعة، أو في الذكاء، أي: وصل فيه إلى حد يدعو إلى التعجب والانبهار.
ـ ومنها الآيات الكونية، حينما تتأمل في كون الله من حولك تجد آيات تدل على إبداع الخالق سبحانه وعجيب صنعته، وتجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونية. يقول تعالى عن هذا النوع من الآيات:

وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ .....(37)
(سورة فصلت)


وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
(سورة الشورى)


ونلاحظ أن هذه الآيات الكونية ثابتة دائمة لا تتبدل، كما قال الحق تبارك وتعالى:

....وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
(سورة الفتح)


ـ ومن معاني الآية: المعجزة، وهي الأمر العجيب الخارق للعادة، وتأتي المعجزة على أيدي الأنبياء لتكون حجة لهم، ودليلاً على صدق ما جاءوا به من عند الله.
ونلاحظ في هذا النوع من الآيات أنه يتبدل ويتغير من نبي لآخر؛ لأن المعجزة لا يكون لها أثرها إلا إذا كان في شيء نبغ فيه القوم؛ لأن هذا هو مجال الإعجاز، فلو أتيناهم بمعجزة في مجال لا علم لهم به لقالوا: لو أن لنا علماً بهذا لأتينا بمثله؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغوا فيه، وعلموه جيداً حتى اشتهروا به.
فلما نبغ قوم موسى عليه السلام في السحر كانت معجزته من نوع من السحر الذي يتحدى سحرهم، فلما جاء عيسى ـ عليه السلام ـ ونبغ قومه في الطب والحكمة كانت معجزته من نفس النوع، فكان ـ عليه السلام ـ يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ونبغ قومه في البلاغة والفصاحة والبيان، وكانوا يقيمون لها الأسواق، ويعلقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازاً بها، فكان لابد أن يتحداهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم، وهكذا تتبدل المعجزات لتناسب كل منها حال القوم، وتتحداهم بما اشتهروا به، لتكون أدعى للتصديق وأثبت للحجة.
ـ ومن معاني كلمة آية: آيات القرآن الكريم التي نسميها حاملة الأحكام، فإذا كانت الآية هي الأمر العجيب، فما وجه العجب في آيات القرآن؟
وجه العجب في آيات القرآن أن تجد هذه الآيات في أمة أمية، وأنزلت على نبي أمي في قوم من البدو الرحل الذين لا يجيدون شيئاً غير صناعة القول والكلام الفصيح، ثم تجد هذه الآيات تحمل من القوانين والأحكام والآداب ما يرهب أقوى حضارتين معاصرتين، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب، فنراهم يتطلعون للإسلام، ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم، أليس هذا عجيباً؟
وهذا النوع الأخير من الآيات التي هي آيات الكتاب الكريم، والتي نسميها حاملة الأحكام، هل تتبدل هي الأخرى كسابقتها؟
نقول: آيات الكتاب لا تتبدل؛ لأن أحكام الله المطلوبة ممن عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأحكام المطلوبة ممن تقوم عليه الساعة.
وقد سبق الإسلام باليهودية والمسيحية، فعندنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة. اعترض على ذلك اليهود وقالوا: ما بال محمد لا يثبت على حال، فيأمر بالشيء اليوم، ويأمر بخلافه غداً، فإن كان البيت الصحيح هو الكعبة فصلاتكم لبيت المقدس باطلة، وإن كان بيت المقدس هو الصحيح فصلاتكم للكعبة باطلة.

أخرج البيهقى فى دلائل النبوة مرسلا من حديث الزهرى ان القبله صرفت نحو المسجد الحرام فى رجب على رأس ستة عشر شهرا من مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكه .وأن اليهود أنشات تقول :قد اشتاق الرجل الى بلده وبيت ابيه وما لهم حتى تركوا قبلتهم يصلون مرة وجها ،ومرة وجها آخر.

 

 لذلك قال الحق تبارك وتعالى:

وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ .... (101)
(سورة النحل)

فالمراد بقوله الحق سبحانه:

....آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ .... (101)
(سورة النحل)


أي: جئنا بآية تدل على حكم يخالف ما جاء في التوراة، فقد كان استقبال الكعبة في القرآن بدل استقبال بيت المقدس في التوراة. وقوله:

....وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ .... (101)
(سورة النحل)


أي: ينزل كل آية حسب ظروفها: أمة وبيئة ومكاناً وزماناً. وقوله:

.... قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ب..... (101)
(سورة النحل)


أي: اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب المتعمد، وأن هذا التحويل من عنده، وليس وحياً من الله تعالى؛ لأن أحكام الله لا تتناقض. ونقول: نعم أحكام الله سبحانه وتعالى لا تتناقض في الدين الواحد، أما إذا اختلفت الأديان فلا مانع من اختلاف الأحكام.
إذن: فآيات القرآن الكريم لا تتبدل، ولكن يحدث فيها نسخ، كما قال الحق تبارك وتعالى:

مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا .... (106)
(سورة البقرة)


وإليك أمثلة للنسخ في القرآن الكريم: حينما قال الحق سبحانه:

{فاتقوا الله ما استطعتم .. "16"}
(سورة التغابن)


جعل الاستطاعة ميزاناً للعمل، فالمشرع سبحانه حين يرى أن الاستطاعة لا تكفي يخفف عنا الحكم، حتى لا يكلفنا فوق طاقتنا، كما في صيام المريض والمسافر مثلاً، وقد قال تعالى:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ....(286)
(سورة البقرة)


وقال:

..... لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا .... (7)
(سورة الطلاق)


فليس لنا بعد ذلك أن نلوي الآيات ونقول: إن الحكم الفلاني لم تعد النفس تطيقه ولم يعد في وسعنا، فالحق سبحانه هو الذي يعلم الوسع ويكلف على قدره، فإن كان قد كلف فقد علم الوسع، بدليل أنه سبحانه إذا وجد مشقة خفف عنكم من تلقاء نفسه سبحانه، كما قال تعالى:

الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا .......66)
(سورة الأنفال)


ففي بداية الإسلام حيث شجاعة المسلمين وقوتهم، قال تعالى:

.....إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ......(65)
(سورة الأنفال)


أي: نسبة واحد إلى عشرة، فحينما علم الحق سبحانه فيهم ضعفاً، قال:

الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ......(66)
(سورة الأنفال)


أي: نسبة واحد إلى اثنين. فالله تعالى هو الذي يعلم حقيقة وسعنا، ويكلفنا بما نقدر عليه، ويخفف عنا عند الحاجة إلى التخفيف، فلا يصح أن نقحم أنفسنا في هذه القضية، ونقدر نحن الوسع بأهوائنا.
ومن أمثلة النسخ أن العرب كانوا قديماً لا يعطون الآباء شيئاً من المال على اعتبار أن الوالد منته ذاهب، ويجعلون الحظ كله للأبناء على اعتبار أنهم المقبلون على الحياة. وحينما أراد الحق سبحانه أن يجعل نصيباً للوالدين جعلها وصية فقال:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ .....(180)
(سورة البقرة)


فلما استقر الإيمان في النفوس جعلها ميراثاً ثابتاً، وغير الحكم من الوصية إلى خير منها وهو الميراث، فقال تعالى:

..... وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ..... (11)
(سورة النساء)

إذن: الحق تبارك وتعالى حينما يغير آية ينسخها بأفضل منها. وهذا واضح في تحريم الخمر مثلاً، حيث نرى هذا التدريج المحكم الذي يراعي طبيعة النفوس البشرية، وأن هذا الأمر من العادات التي تمكنت من النفوس، ولابد لها من هذا التدرج، فهذا ليس أمراً عقدياً يحتاج إلى حكم قاطع لا جدال فيه.
فانظر إلى هذا التدرج في تحريم الخمر: قال تعالى:

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا .....(67)
(سورة النحل)


أهل التذوق والفهم عن الله حينما سمعوا هذه الآية قالوا: لقد بيت الله للخمر أمراً في هذه الآية؛ ذلك لأنه وصف الرزق بأنه حسن، وسكت عن السكر فلم يصفه بالحسن، فدل ذلك على أن الخمر سيأتي فيه كلام فيما بعد.
وحينما سئل صلى الله عليه وسلم عن الخمر رد القرآن عليهم:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ..... (219)
(سورة البقرة)


جاء هذا على سبيل النصح والإرشاد، لا على سبيل الحكم والتشريع، فعلى كل مؤمن يثق بكلام ربه أن يرى له مخرجاً من أسر هذه العادة السيئة. ثم لوحظ أن بعض الناس يصلي وهو مخمور، حتى قال بعضهم في صلاته: أعبد ما تعبدون، فجاء الحكم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ .... (43)
(سورة النساء)


ومقتضى هذا الحكم أن يصرفهم عن الخمر معظم الوقت، فلا تتأتى لهم الصلاة دون سكر إلا إذا امتنعوا عنها قبل الصلاة بوقت كافٍ، وهكذا عودهم على تركها معظم الوقت، كما يحدث الآن مع الطبيب الذي يعالج مريضه من التدخين مثلاً، فينصحه بتقليل الكمية تدريجياً حتى يتمكن من التغلب على هذه العادة.
وبذلك وصل الشارع الحكيم سبحانه بالنفوس إلى مرحلة الفت فيها ترك الخمر، وبدأت تنصرف عنها، وأصبحت النفوس مهيئة لتقبل التحريم المطلق، فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ....(90)
(سورة المائدة)


إذن: الحق سبحانه وتعالى نسخ آية وحكمها بما هو احسن منه. والعجيب أن نرى من علمائنا من يتعصب للقرآن، فلا يقبل القول بالنسخ فيه، كيف والقرآن نفسه يقول:

مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا .... (106)
(سورة البقرة)


قالوا: لأن هناك شيئاً يسمى البداء .. ففي النسخ كأن الله تعالى أعطى حكماً ثم تبين له خطؤه، فعدل عنه إلى حكم آخر.
ونقول لهؤلاء: لقد جانبكم الصواب في هذا القول، فمعنى النسخ إعلان انتهاء الحكم السابق بحكم جديد افضل منه، وبهذا المعنى يقع النسخ في القرآن الكريم. ومنهم من يقف عند قوه الحق تبارك وتعالى:

.... نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ..... (106)
(سورة البقرة)


فيقول: (نأت بخير منها) فيها علة للتبديل، وضرورة تقتضي النسخ وهي الخيرية، فما علة التبديل في قوله: (أو مثلها)؟
أولاً: في قوله تعالى: (نأت بخير منها) قد يقول قائل: ولماذا لم يأت بالخيرية من البداية؟ نقول: لأن الحق سبحانه حينما قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ....(102)
(سورة آل عمران)


وهذه منزلة عالية في التقوى، لا يقوم بها إلا الخواص من عباد الله، شقت هذه الآية على الصحابة وقالوا: ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟ فنزلت:

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ....(16)
(سورة التغابن)


وجعل الله تعالى التقوى على قدر الاستطاعة، وهكذا نسخت الآية الأولى مطلوباً، ولكنها بقيت ارتقاء، فمن أراد أن يرتقي بتقواه إلى (حق تقاته) فبها ونعمت، وأكثر الله من أمثاله وجزاه خيراً، ومن لم يستطع أخذ بالثانية.
ولو نظرنا إلى هاتين الآيتين نظرة أخرى لوجدنا الأولى:

.... اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ..... (102)
(سورة آل عمران)


وإن كانت تدعو إلى كثير من التقوى إلا أن العاملين بها قلة، في حين أن الثانية:

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ....(16)
(سورة التغابن)

وإن جعلت التقوى على قدر الاستطاعة إلا أن العاملين بها كثير، ومن هنا كانت الثانية خيراً من الأولى، كما نقول: قليل دائم خير من كثير منقطع.
أما في قوله تعالى: (أو مثلها) أي: أن الأولى مثل الثانية، فما وجه التغيير هنا، وما سبب التبديل؟
نقول: سببه هنا اختبار المكلف في مدى طاعته وانصياعه، إن نقل من أمر إلى مثله، حيث لا مشقة في هذا، ولا تيسير في ذاك، هل سيمتثل ويطيع، أم سيجادل ويناقش؟
مثل هذه القضية واضحة في حادث تحويل القبلة، حيث لا مشقة على الناس في الاتجاه نحو بيت المقدس، ولا تيسير عليهم في الاتجاه نحو الكعبة، الأمر اختبار للطاعة والانصياع لأمر الله، فكان من الناس من قال: سمعاً وطاعة ونفذوا أمر الله فوراً دون جدال، وكان منهم من اعترض وأنكر واتهم رسول الله بالكذب على الله.
ومن ذلك أيضاً ما نراه في مناسك الحج مما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نقبل الحجر الأسعد وهو حجر، ونرمي الجمرات وهي أيضاً حجر، إذن: هذه أمور لا مجال للعقل فيها، بل هي لاختبار الطاعة والانقياد للمشرع سبحانه وتعالى.
ثم يقول تعالى:

.... بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(سورة النحل)


بل: حرف يفيد الإضراب عن الكلام السابق وتقرير كلام جديد، فالحق سبحانه وتعالى يلغي كلامهم السابق:

.....قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ب....(101)
(سورة النحل)


ويقول لهم: لا ليس بمفتر ولا كذاب، فهذا اتهام باطل، بل أكثرهم لا يعلمون. وكلمة (أكثرهم) هنا ليس بالضرورة أن تقابل بالأقل، فيمكن أن نقول: أكثرهم لا يعلمون. وأيضاً: أكثرهم يعلمون كما جاء في قول الحق سبحانه:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ .....(18)
(سورة الحج)


هكذا بالإجماع، تسجد لله تعالى جميع المخلوقات إلا الإنسان، فمنه كثير يسجد، يقابله أيضاً كثير حق عليه العذاب، فلم يقل القرآن: وقليل حق عليه العذاب. وعلى فرض أن:

.....بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(سورة النحل)


إذن: هناك أقلية تعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه، وتعلم كذبهم وافتراءهم على رسول الله حينما اتهموه بالكذب، ويعلمون صدق كل آية في مكانها، وحكمة الله المرادة من هذه الآية. فمن هم هؤلاء الذين يعلمون في صفوف الكفار والمشركين؟
قالوا: لقد كان بين هؤلاء قوم أصحاب عقول راجحة، وفهم للأمور، ويعلمون وجه الحق والصواب في هذه المسألة، ولكنهم أنكروا، كما قال الحق تبارك وتعالى:

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ......(14)
(سورة النمل)


وأيضاً من هؤلاء أصحاب عقول يفكرون في الهدى، ويراودهم الإسلام، وكأن لديهم مشروع إسلام يعدون أنفسهم له، وهم على علم أن كلام الكفار واتهامهم لرسول الله باطل وافتراء.
وأيضاً من هؤلاء مؤمنون فعلاً، ولكن تنقصهم القوة الذاتية التي تدفع عنهم، والعصبية التي ترد عنهم كيد الكفار، وليس عندهم أيضاً طاقة أن يهاجروا، فهم ما يزالون بين أهل مكة إلا أنهم مؤمنون ويعلمون صدق رسول الله وافتراء الكفار عليهن لكن لا قدرة لهم على إعلان إيمانهم.
وفي هؤلاء يقول الحق تبارك وتعالى:

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ .... (25)
(سورة الفتح)


أي: تدخلوا على أهل مكة وقد اختلط الحابل بالنابل، والمؤمن بالكافر، فتقتلوا إخوانكم المؤمنين دون علم.

.... لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
(سورة الفتح)


أي: لو كانوا مميزين، الكفار في جانب، والمؤمنون في جانب لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً. إذن: فإن كان أكثرهم لا يعلمون ويتهمونك بالكذب والافتراء فإن غير الأكثرية يعلم أنهم كاذبون في قولهم:

.... إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ .....(101)
(سورة النحل)


وماداموا اتهموك بالافتراء فقل رداً عليهم

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)