إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)

بعد أن ذكرت الآيات طرفاً من سيرة اليهود، وطرفاً من سيرة أهل مكة تعرضت لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والسؤال: لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء؟
ذلك لأنه أبو الأنبياء، ولو مكانته بين الأنبياء، والجميع يتمحكون فيه، حتى المشركون يقولون: نحن على دين إبراهيم، والنصارى قالوا عنه: إنه نصراني. واليهود قالوا: إنه يهودي. فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام، وتوضح مواصفاتها، وترد وتبطل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام، وهاكم مواصفاته:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ....(120)
(سورة النحل)


أمة: الأمة في معناها العام: الجماعة، وسياق الحديث هو الذي يحدد عددها، فنقول مثلاً: أمة الشعراء. أي: جماعة الشعراء، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد، كما في قوله تعالى:

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ....(23)
(سورة القصص)


فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لأنهم خرجوا لغرض واحد، وهو سقي دوابهم. وتطلق الأمة على جنس في مكان، كأمة الفرس، وأمة الروم، وقد تطلق على جماعة تتبع نبياً من الأنبياء، كما قال سبحانه:

..... وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
(سورة فاطر)


وحين نتوسع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم؛ لأنه أرسل للنا كافة، وجمع الأمم في أمة واحدة، كما قال تعالى:

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ....(92)
(سورة الأنبياء)


ومعنى أمة واحدة. أي: جامعة لكل الأمم.
فالمعنى ـ إذن ـ أن إبراهيم عليه السلام ـ يقوم مقام أمة كاملة؛ لأن الكمالات المطلقة لله وحده، والكمالات الموهوبة من الله لخلقه في الرسل تسمى كمالات بشرية موهوبة من الله. أما ما دون الرسل فقد وزعت عليهم هذه الكمالات، فأخذ كل إنسان واحداً منها، فهذا أخذ الحلم، وهذا الشجاعة، وهذا الكرم، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل.
فإذا نظرت إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ وجدت فيه من المواهب ما لا يوجد إلا في أمة كاملة. كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حدد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول: الخير في ـ وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه ـ وفي أمتي"
قال ابن حجر العسقلانى :لا اعرفه ولكن معناه صحيح ذكره القارىء فى الأسرار المرفوعه وكذا السيوطى فى الدرر المنثورة والعجلونى فى كشف الخفاء.
أي: أن كل واحد منهم أخذ جزءاً من هذا الكما، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مبعثر في أمته كلها.
لذلك حين تتبع تاريخ إبراهيم ـ عليه السلام ـ في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خصلة من خصال الخير، وصفة من صفات الكمال، فإذا جمعت هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسرها، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير.
ومن معاني: أمة: أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته. وقوله:

.... قَانِتًا لِلَّهِ ......... (120)
(سورة النحل)


أي: خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته.

..... حَنِيفًا .....(120)
(سورة النحل)


الحنف في الأصل: الميل، وقد جاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج، وحاد عن هذا الفساد.
والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طم الفساد، إذن: ميله عن الاعوجاج والفساد، فمعناه أنه كان مستقيماً معتدلاً على الدين الحق، مائلاً عن الاعوجاج حائدا عن الفساد. ثم ينهي الحق سبحانه الآية بقوله:

.....وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
(سورة النحل)


وهذه الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله، فما فائدة نفي الشرك عنه مرة أخرى في:

.....وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
(سورة النحل)


يجب أن نفرق بين أنواع الشرك، فمنه الشرك الأكبر، وهو أن تجعل لله شركاء، وهو القمة في الشرك. ومنه الشرك الخفي، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دخل في تكون الأشياء. فالآية هنا:

....وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
(سورة النحل)


أي: الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفت عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شرك الأسباب أيضاً، وهو دقيق خفي.
ولذلك عندما ألقى ـ عليه السلام ـ في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإن جاءت على يد جبريل ـ عليه السلام ـ، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أما إليك فلا.
أورده القرطبى فى تفسيره فى تفسير قوله تعالى  "يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم" الأنبياء من حديث ابى بن كعب وان ابراهيم عليه السلام قال "حسبى من سؤالى علمه بحالى". فأين الشرك الخفي ـ إذن ـ والأسباب عنده معدومة من البداية؟


ثم يقول الحق سبحانه

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)