إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

بعد أن تحدث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي الأنبياء، وذكر جانباً من صفاته ومناقبه تكلم عن بني إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر الله بعد أن طلبوها بأنفسهم، وكأن القرآن يقول لهم: لقد زعمتم أن إبراهيم كان يهودياً، فهاهي صفات إبراهيم، فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه السلام؟
ويعطينا الحق سبحانه مثالاً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به، وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه، فيذكر ما كان منهم في أمر السبت. و(السبت) هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للأحد، والسبت مأخوذ من سبت يسبت سبتاً. يعني: سكن واستقر، ومنه قوله تعالى:

وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
(سورة النبأ)


ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوماً يرتاحون فيه من العمل، ويتفرغون فيه لعبادة الله، وقد اقترح عليهم نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ أن يكون يوم الجمعة، فهو اليوم الذي أتم الله فيه خلق الكون في ستة أيام، وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم، ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم السبت وقالوا:
إن الله خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الأحد، وانتهى منها يوم الجمعة، وارتاح يوم السبت، وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة الله يوم السبت، وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم.
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت، أو إبراهيم عليه السلام في يوم الجمعة، واختاروا الأحد على اعتبار إنه أول بدء الخلق. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختار لها الله يوم الجمعة يوم الانتهاء وتمام النعمة. أخرج مسلم فى صحيحه -كتاب الجمعه من حديث ابى هريرة وحذيفه رضى الله عنهما انهما قالا :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
أضل الله عن الجمعه من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعه فجعل الجمعه والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامه ،نحن الأخرون من اهل الدنيا  والأولون يوم القيامه المقضى لهم قبل الخلائق"
إذن: اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة، فهذا مطلبهم، وقد وافقهم ربهم سبحانه وتعالى عليه، وأمرهم أن يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم، وافقهم ليبين لجاجتهم وعنادهم، وأنهم لن يوفوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم، ووافقهم ليقطع حجتهم، فلو اختار لهم يوماً لاعترضوا عليه، ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم.
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة، هي أن الآيات التي تأتي مصدقة للرسل في البلاغ عن الله تعالى قد تكون من عند الله وباختياره سبحانه، وقد تكون باختيار المرسل إليهم أنفسهم، وقد كان من بني إسرائيل أن كذبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى:

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ....(59)
(سورة الإسراء)


أي: لكونهم يقترحون الآية ثم يكذبونها، فأمرهم تكذيب في تكذيب. وقصة السبت ذكرت في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى:

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
(سورة الأعراف)


لقد نقض اليهود عهدهم مع الله كعادتهم، وأخلفوا ما التزموا به، وذهبوا للصيد في يوم السبت، فكادهم الله وأغاظهم، فكانت تأتيهم الحيتان والأسماك تطفو على سطح الماء كالشراع، ولا ينتفعون منها بشتى إلا الحسرة والأسف، فيقولون: لعلها تأتي في الغد فيخيب الله رجاءهم:

....وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ .... (163)
(سورة الأعراف)


وقد سمى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداءً؛ لأنهم اعتدوا على ما شرع الله، قال تعالى:

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
(سورة البقرة)


وقوله تعالى:

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ .... (124)
(سورة النحل)


كلمة (اختلفوا) توحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية، والحقيقة أن الخلاف لم يكن بين اليهود بعضهم البعض، بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة، فخالفوه واختاروا السبت، فجعل الله الخلاف عليهم.
فالمعنى: إنما جعل السبت حجة على الذين اختلفوا فيه؛ لأن اثبت عدوانهم على يوم العبادة، فبعد أن اقترحوه اختاروه انقلب حجة عليهم، ودليلاً لإدانتهم. ولو تأملنا قوله:

.... عَلَى الَّذِينَ ....(124)
(سورة النحل)


نجد أن كلمة (على) تدل على الفوقية أي: أن لدينا شيئاً أعلى شيئاً أدنى؛ فكأن السبت جاء ضد مصلحتهم، وكأن خلافهم مع نبيهم انقلب عليهم. ومن ذلك قوله تعالى:

... وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ....(6)
(سورة الرعد)


يؤولها بعضهم على معنى (مع ظلمهم) نقول: المعنى صحيح، ولكن المعية لا تقتضي العلو، فلو قلنا: مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية، أما قول الحق سبحانه:

.....وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ...(6)
(سورة الرعد)


أي: أن المغفرة علت على الظلم، فالظلم يتطلب العقاب، ولكن رحمة الله ومغفرته علت على أن تعامل الظالم بما يستحق، فرحمة الله سبقت غضبه، ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ .... (39)
(سورة إبراهيم)


فالكبر كان يقتضي عدم الإنجاب ولكن هبة الله علت على سنة الكبر. ثم يقول الحق سبحانه

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)