وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)

وإذا سمعت "كأين" افهم أن معناها كثير كثير كثير؛ بما يفوق الحصر، ومثل "كأين" كلمة "كم"، والعد هو مظنة الحصر، والشيء الذي فوق الحصر؛ تنصرف عن عده، ولا أحد يحصر رمال الصحراء مثلاً، لكن كلاً منا يعد النقود التي يردها لنا البائع، بعد أن يأخذ ثمن ما اشتريناه. إذن: فالانصراف عن العد معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لعده فوق الحصر، ولا أحد يعد النجوم أو يحصيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه ينبهنا إلى هذه القضية، لإسباغ نعمه على خلقه، ويقول:
..........
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ............... (34)
(سورة إبراهيم)


و "إن" هي للأمر المكوك فيه، وأنت لن تعدوا نعمة الله؛ لأنها فوق الحصر، والمعدود دائماً يكون مكرراً، وذكر الحق هنا نعمة واحدة، ولم يحددها؛ لأن أي نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدت فيها نعماً لا تحصر ولا تعد. إذن: فكلمة "كأين" تعني "كم"، وأنت تقول للولد الذي لم يستذكر دروسه: كم نصحتك؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل.
وتأتي "كم" ويراد بها تضخيم العدد، لا منك أنت المتكلم، ولكن ممن توجه إليه الكلام، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صدقاً، أو كأنك استحضرت النصائح، فوجدتها كثيرة جداً. والسؤال عن الكمية إما أن يلقى من المتكلم، وإما أن يطلب من المخاطب؛ وطلبه من المخاطب دليل على أنه سيقر على نفسه والإقرار سيد الأدلة. وحين يقول سبحانه:

وَكَأَيِّنْ .............(105)
(سورة يوسف)


فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير. وسبحان القائل:

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
(سورة آل عمران)


وهكذا نفهم أن (كأين) تعني الكثير جداً؛ الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يبرر لنا العذر أمام الغير إن لم نحصه.
والآيات هي جمع "آية"؛ وهي الشيء العجيب، الملفت للنظر ويقال: فلان آية في الذكاء. أي: أن ذكاءه مضرب المثل، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين. ويقال: فلان آية في الشجاعة؛ وهكذا.
ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف، ولا ينسى. وقد نثر الحق سبحانه في الكون آيات عجيبة، ولكل منثور في الكون حكمة. وتنقسم معنى الآيات إلى ثلاث:
الأول: هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها، وهي عجائب؛ وهي حجة للمتأمل أن يؤمن بالله الذي أوجدها؛ وهي تلفتك إلى أن من خلقها لابد أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدقة، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه.
وقد نثر الحق سبحانه هذه الآيات في الكون. وحينما أعلن الله بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها، ولم يقل أحد غيره: "أنا الذي خلقت" فهذه المسألة ـ مسألة الخلق ـ تثبت له سبحانه، فهو الخالق وما سواه مخلوق، وهذه الآيات قد خلقت من أجل هدف وغاية. وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون؛ فيقول الحق سبحانه:

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)  وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
(سورة الروم)


كل هذه آيات تنبه الإنسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه طبقاً لنواميس عليا؛ فيها سر بقاء حياته؛ فيجب أن ينتبه إلى من أوجدها. وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى؛ كان عليه أن يسأل: ماذا يريد منه هذا الخالق الأعلى؟
هذه الآيات تفرض علينا عقلياً أن يوجد من يبلغنا مطلوب الواجد الأعلى، وحينما يأتي رسول يقول لنا: إن من تبحثون عنه اسمه الله؛ وهو قد بعثني لأبلغكم بمطلوبه منكم أن تعبدوه؛ فتتبعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه.
والنوع الثاني من الآيات هي آيات إعجازية، والمراد منها تثبيت دعوة الرسل، فكان ولابد أن يأتي كل رسول ومعه آية؛ لتثبت صدق بلاغه عن الله؛ لأن كل رسول هو من البشر، ولابد له من آية تخرق النواميس، وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل.
وهناك آيات حكمية، وهي النوع الثالث، وهي الفواصل التي تحمل جملاً، فيها أحكام القرآن الكريم؛ وهو المنهج الخاتم.
وهي آيات عجيبة أيضاً؛ لأنك لا تجد حكماً من أحكام الدين إلا ويمس منطقياً حاجة من حاجات النفس الإنسانية، والبشر وإن كفروا سيضطرون إلى كثير من القضايا التي كانوا ينكرونها، ولكن لا حل للمشكلات التي يواجهونها، ولا تحل إلا بها.
والمثل الواضح هو الطلاق، وهم قد عابوا مجيء الإسلام به؛ وقالوا: إن مثل هذا الحل للعلاقة بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير من القسوة على الأسرة، لكنهم لجأوا إليه بعد أن عضتهم أحداث الحياة، وهكذا اهتدى العقل البشري إلى حكم كان يناقضه.
وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الآن وضع نظام ليتحللوا من الربا كله، ويقولون: لا شيء يمنع العقل البشري من التوصل إلى ما يفيد.
وهكذا نجد الآيات الكونية هي عجائب بكل المقاييس، والآيات المصاحبة للرسل هي معجزات خرقت النواميس، وآيات القرآن بما فيها من أحكام تقي الإنسان من الداء قبل أن يقع، وتجبرهم معضلات الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها.
وهم يعرضون عن كل الآيات، يعرضون عن آيات الكون التي إن دققوا فيها لثبت لهم وجود إله خالق؛ ولأخذوا عطاء من عطاءات الله ليسري تربية وتنمية، وكل الاكتشافات الحديثة إنما جاءت نتيجة لملاحظات ظاهرة ما في الكون.
وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قدر؛ ثم رأى غطاء القدر يعلو؛ ففكر وتساءل: لماذا يعلو غطاء القدر؟ ولم يعرض الرجل عن تأمل ذلك، واستنباط حقيقة تحول الماء إلى بخار؛ واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد؛ ويحتاج إلى حيز اكبر من الحيز الذي كان فيه قبل التمدد.
وكان هذا التأمل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملت بها البواخر والقطارات، وبدأ عصر سمى "عصر البخار". وهذا الذي رأى طفو طبق على سطح الماء وتأمل تلك الظاهرة، ووضع قاعدة باسمه، وهي "قاعدة أرشميدس".
وهكذا نجد أن أي إنسان يتأمل الكون بدقة سيجد في ظواهره ما يفيد في الدنيا؛ كما استفاد العالم من تأملات أرشميدس وغيره؛ ممن قدموا تأملاتهم كملاحظات، تتبعها العلماء ليصلوا إلى اختراعات تفيد البشرية.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضن على الكافر بما يفيد العالم مادام يتأمل ظواهر الكون، ويستنبط منها ما يفيد البشرية. إذن فقوله تعالى:

وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
(سورة يوسف)


إن أردتها وسيلة للإيمان بإله؛ فهي تقودك إلى الإيمان؛ وإن أردتها لفائدة الدنيا فالحق لم يبخل على كافر بأن يعطيه نتيجة ما يبذل من جهد. فكل المطلوب ألا تمر على آيات الله وأنت معرض عنها؛ بل على الإنسان أن يقبل إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تثري حياتك؛ وتعطيك حياة لا نهاية لها، وهي حياة الآخرة، أو تسعد حياتك وحياة غيرك، بأن تبتكر أشياء تفيدك، وتفيد البشرية. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: