إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)

وبالنسبة للقرآن نجد الحق ـ سبحانه ـ يقول:

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
(سورة الشعراء)


فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومرة يقول:

.....
نُزِّلَ....(2)
(سورة محمد)


، والنزول في هذه الحالة منسوب لله وجبريل والملائكة. أما قول الحق ـ سبحانه:

...أَنْزَلَ..(91)
(سورة البقرة)


فهو القول الذي يعني أن القرآن قد تعدى كونه مكنوناً في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو معنى الإنزال للقرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل من بعد ذلك نجوماً متفرقة؛ ليعالج كل المسائل التي تعرض لها المسلمون. وهكذا يؤول الأمر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح الأمين. والحق ـ سبحانه ـ يقول:

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ......(105)
(سورة الإسراء)


أي: أن الحق ـ سبحانه ـ أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزله مفرقا ليعالج الأحداث ويباشر مهمته في الوجود الواقعي. وفي هذه الآية يقول ـ سبحانه:

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا......(2)
(سورة يوسف)


وفي الآية السابقة قال:

...تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ...(1)
(سورة يوسف)


فمرة يصفه بأنه قرآن بمعنى القروء، ومرة يصفه بأنه كتاب؛ لأنه مسطور، وهذه من معجزات التسمية. ونحن نعلم أن القرآن حين جمع ليكتب؛ كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده مكتوباً، ويشهد عليه اثنان من الحافظين. ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء، أما السطور فمثبتة لا لبس فيها.
وهو قرآن عربي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجاهر بالدعوة في أمة عربية، وكان لابد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغه عن الله، وأن تكون مما نبغ فيه العرب؛ لأن المعجزة مشروطة بالتحدي، ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه ولا لهم به صلة؛ حتى لا يقولون أحد: نحن لم نتعلم هذا؛ ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه.
وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق، وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المفوهين، وكانت المباريات الآدائية تقام، وكانت التحديات تجرى في هذا المجال، وينصب لها الحكام. أي: أن الدربة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة، محكوم عليها من الناس في الأسواق، فهم أمة بيان وبلاغة وفصاحة. لذلك شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام، بل بالمبادئ التي تطغى على مبادئ الفرس والروم.
وهي مبادئ قد نزلت في أمة مبتدية ليس لها قانون يجمعها، ولا وطن يضمهم يكون الولاء له، بل كل قبيلة لها قانون، وكلهم بدو يرحلون من مكان إلى مكان. وحين نزل فيهم القرآن علم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المبتدية قد امتلكت ما يبني حضارة ليس لها مثل من قبل، رغم أن النبي أمي وأن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمية.
وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحداهم بما نبغوا فيه، وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم يعرفوه. ويشاء الحق ـ سبحانه ـ أن ينزل القرآن عربياً؛ لأن الحق لم يكن ليرسل رسولاً إلا بلسان قومه، فهو القائل:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ....(4)
(سورة إبراهيم)


وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، الذي تميز عن سائر كتب الرسل الذين سبقوه؛ بأنه كتاب ومعجزة في آن واحد، بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صلى الله عليه وسلم منفصلة من كتب الأحكام التي أنزلت إليهم.
ويظل القرآن معجزة تحمل منهجا إلى أن تقوم الساعة، ومادام قد آمن به الأوائل وانساحوا في العالم، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتاب شاملاً، يجذب كل من لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام.
ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة، يجدون أن الإسلام قد انتشر لا بقوة من آمنوا به؛ بل بقوة من انجذبوا إليه مشدوهين بما فيه من نظم تخلصهم من متاعبهم.
ففي القرآن قوانين تسعد الإنسان حقاً، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في الكون؛ ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله الله على رسولهم لم يفرط في شيء. وإذا قال قائل من المستشرقين: كيف تقولون: إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين؛ رغم وجود ألفاظ أجنبية مثل كلمة "آمين" التي تؤمنون بها على دعاء الإمام؛ كما توجد ألفاظ رومية، وأخرى فارسية؟
وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العرب استقبل ألفاظ مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلاطه بتلك الأمم، ثم دارت هذه الألفاظ على لسانه، وصارت تلك الألفاظ عربية، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ، وندخل في لغتنا أي لفظ نستعمله ويدور على ألسنتنا، مادمنا نفهم المقصود به. ويذيل الحق ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله:

....
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
(سورة يوسف)


ليستنهض همة العقل، ليفكر في الأمر، والمنصف بالحق يهمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم بالعقل، عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانباً؛ لينفذ من وراء العقل. وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما، ويستعرض معك متانتها ومحاسنها؛ فهو يفعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته.
أما لو كانت الصنعة غير جيدة، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك؛ لأنك حين تتدبر بعقلك الأمر تكتشف المدلس وغير المدلس؛ لذلك فهو يدلس عليك، ويعمى عليك، ولا يدع لك فرصة للتفكير.

ويقول الحق ـ سبحانه ـ من بعد ذلك

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)