نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

حين يتحدث الحق ـ سبحانه ـ عن فعل من أفعاله؛ ويأتي بضمير الجمع؛ فسبب ذلك أن كل فعل من أفعاله يتطلب وجود صفات متعددة؛ يتطلب: علماً؛ حكمة؛ قدرة؛ إمكانات. ومن غيره ـ سبحانه ـ له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقت أن تشاء؟
لا أحد سواه قادر على ذلك؛ لأنه ـ سبحانه ـ وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في الحياة ومقدر. لكن حين يتكلم ـ سبحانه ـ عن الذات؛ فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول تعالى:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
(سورة طه)


وهنا يتكلم ـ سبحانه ـ بأسلوب يعبر عن أفعال لا يقدر عليها غيره؛ بالدقة التي شاءها هو ـ سبحانه ـ فيقول:

حْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص....(3)
(سورة يوسف)


وحدد ـ سبحانه ـ أنه هو الذي يقص، وإذا وجد فعل لله؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه؛ ولا نحاول أن نشتق منه اسماً نطلقه على الله؛ إلا إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي علمناها في أسمائه الحسنى؛ لأنه الذات الأقدس.
وفي كل ما يتعلق به ذاتاً وصفات وأفعالاً إنما نلتزم الأدب؛ لأننا لا نعرف شيئا عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصاص، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسماً لله؛ لأنه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك. والواجب أن ما أطلقه ـ سبحانه ـ اسماً نأخذه اسماً، وما أطلقه فعلاً نأخذه فعلاً. وهنا يقول ـ سبحانه:

حْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص....(3)
(سورة يوسف)


ونعلم أن كلمة "قص" تعني الإتباع، وقال بعض العلماء: إن القصة تسمى كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قص الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير من يتتبعه ولا ينحرف بعيدا عن الاتجاه الذي سار فيه من يبحث عنه. واقرأ قول الحق ـ سبحانه ـ:

 
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
(سورة القصص)


و                 ......
قُصِّيهِ ....(11)
(سورة القصص)



أي: تتبعي أثره. إذن: فالقص ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القص هو تتبع ما حدث بالفعل. ويعطينا الحق سبحانه مثلاً من قصة موسى عليه السلام مع فتاه:

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
(سورة الكهف)


أي: تابعا الخطوات. وهكذا نعلم أن القص هو تتبع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مصورة لواقع، لا لبس فيه أو خيال؛ ولا تزيد، وليس كما يحدث في القصص الفني الحديث؛ حيث يضيف القصاص لقطات خيالية من أجل الحبكة الفنية والإثارة وجذب الانتباه.
أما قصص القرآن فوضعه مختلف تماماً، فكل قصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلاً؛ لنأخذ منها العبرة؛ لأن القصة نوع من التاريخ. والقصة في القرآن مرة تكون للحدث، ومرة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تأت قصة رسول في القرآن كاملة، إلا قصة يوسف ـ عليه السلام.
أما بقية الرسل فقصصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فتأتي لقطة من حياة رسول، ولقطة من حياة رسول آخر، وهكذا. ولا يقولن أحد: إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة مستوفية؛ فقد شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها، مستوفية، ففيها الحدث الذي دارت حوله أشخاص، وفيها شخص دارت حوله الأحداث.
فقصة يوسف ـ عليه السلام ـ في القرآن لا تتميز بالحبكة فقط؛ بل جمعت نوعي القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث. جاءت قصة يوسف بيوسف، وما مر عليه من أحداث؛ بدء من الرؤيا، ومروراً بحقد الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيراً لقاء الأب من جديد.
إذن: فقول الحق ـ سبحانه:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ......(3)
(سورة يوسف)


يبين لنا أن الحسن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار اليهود حين قرأوا القصة كما جاءت بالقرآن ترك بعضهم كتابه، واعتمد على القرآن في روايتها، فالقصة أحداثها واحدة، إلا صياغة الأداء؛ وتلمسات المواجيد النفسية؛ وإبراز المواقف المطوية في النفس البشرية؛ وتحقيق الرؤى الغيبية كل ذلك جاء في حبكة ذات أداء بياني معجز جعلها احسن القصص.
أو: هي احسن القصص بما اشتملت عليه من عبر متعددة، عبر في الطفولة في مواجهة الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الأخوة، والتمرد، وإلقائه في الجب والكيد له، ووضعه سجيناً بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى تم له النصر والتمكين. وكيف ألقى الله على يوسف ـ عليه السلام ـ محبة منه؛ ليجعل كل من لتقي به يحب خدمته. وكيف صان يوسف إرث النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛ فعفا عن أخوته بما روته السورة:

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92
(سورة يوسف)

وقالها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم لأهله يوم فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء">

وهكذا تمتلئ سورة يوسف بعبر متناهية، يتجلى بعض منها في قضية دخوله السجن مظلوماً، ثم يأتيه العفو والحكم؛ لذلك فهي احسن القصص؛ إما لأنها جمعت حادثة من دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث.
أو: أنها احسن القصص في أنها أدت المتحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة، وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عرض الموضوع بأسلوب جذاب مستميل مقنع ممتع. أو: أنها احسن القصص؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطات متعددة تساير: العمر الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره؛ ضعيفا؛ مغلوباً على أمره؛ وقويا مسيطراً، ممكنا من كل شيء.
بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات موزعة كآيات ضمن سور أخرى؛ وكل آية جاءت في موقعها المناسب لها. إذن: فالحسن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر أن يأتي بمثله. يقول الحق سبحانه:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
(سورة يوسف)


والمقصود بالغفلة هنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً، ولم يعرف عنه أحد قبل نزول القرآن أنه خطيب أو شاعر، وكل ما عرف عنه فقط هو الصفات الخلقية العالية من صدق وأمانة؛ وهي صفات مطلوبة في المبلغ عن الله؛ فمادام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يبلغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض؟
إن الكذب أمر مستبعد تماماً في رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها. والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رضي الله عنه له حين أبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي قد نزل عليه، لم يقل له أكثر من أنه رسول من عند الله، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: صدقت.
وحين حدثت رحلة الإسراء؛ كذبها البعض متسائلين: كيف نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ويقول محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال أبو بكر: مادام قد قال فقد صدق. وهكذا نجد أن حيثية الصدق قبل الرسالة هي التي دلت على صدقه حين أبلغ بما نزل عليه من وحي.
مثال ذلك: تصديق خديجة رضي الله عنها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت له: "والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسباب تؤيد تصديقها له صلى الله عليه وسلم في نبوته. وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات؛ كانت بعض العقول المعاصرة لرسول الله تقف متسائلة: كيف؟ فيوضح لهم أبو بكر: "انتبهوا إنه رسول الله".
مثال هذا: ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ متسائلاً ـ ويكاد أن يكون رافضاً لشروط هذا الصلح ـ: ألسنا على الحق؟ علام نعطي الدنية في ديننا؟ ويرد عليه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: استمسك بغرزه يا عمر، إنه رسول الله.اخرجه احمد فى مسنده أي: انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك انصياع أعمى؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة. والحق سبحانه يقول هنا:

........وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
(سورة يوسف)


والغافل: هو الذي لا يعلم ـ لا عن جهل، أو قصور عقل ـ ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله. أو: أن يكون المقصود بقوله:

...... لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
(سورة يوسف)


أي: أنك يا محمد لن تكن ممن يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى معلم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضا من أطراف القصة من هنا أو هناك. بل أنت لم تتلق الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟
وكان ضربا من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيات العالي بكل تفاصيل القصة، كدليل عملي على أن معلم محمد صلى الله عليه وسلم هو الله، وأنه سبحانه هو من أوحى بها إليه. والوحي ـ كما نعلم ـ هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول:

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا.....(12)
(سورة الأنفال)


وسبحانه يوحي إلى من يصفي من البشر إلى صفوتهم؛ مصداقا لقوله سبحانه:

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
(سورة المائدة)


ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحيا لا يستطيع الإنسان دفعا له، مثل الوحي لأم موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليم:

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
(سورة طه)


ويحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قوله الحق:

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
(سورة الزلزلة)


وأوحى سبحانه إلى النحل، فقال الحق:

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
(سورة النحل)


والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء، فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خلقه، وهو سبحانه يخاطبهم بسر خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك

 

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)