قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)

وحين يورد القرآن خطاب أب لابن لا نجد قوله (يا بني) وهو خطاب تحنين، ويدل على القرب من القلب، و"بني" تصغير "ابن". أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول "ابني" مثل قول الحق سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان:

...
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي..(45)
(سورة هود)


وكلمة "يا بني" بما فيها من حنان وعطف؛ سيفيدنا كثيرا فيما سوف يأتي من مواقف يوسف؛ ومواقف أبيه منه. وقول يعقوب ليوسف "يا بني" يفهم منه أن يوسف عليه السلام مازال صغيراً، فيعقوب هو الأصل، ويوسف هو الفرع، والأصل دائما يمتلئ بالحنان على الفرع، وفي نفس الوقت نجد أي أب يقول: من يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي.
وقول الأب: يا بني، يفهم منه أن الابن مازال صغيراً، ليست له ذاتية منفصلة عن الأب ليقرر بها ما هو المناسب، وما هو غير المناسب، وحين يفزع يوسف مما يزعجه أو يسيء إليه؛ أو أي أمر معضل؛ فهو يلجأ إلى من يحبه؛ وهو الأب؛ لأن الأب هو ـ الأقدر في نظر الابن على مواجهة الأمور الصعبة. وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه؛ قال يعقوب عليه السلام:

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ....... (5)
(سورة يوسف)


ونفهم من كلمة "رؤيا" أنها رؤيا منامية؛ لأن الشمس والقمر والنجوم لا يسجدون لأحد، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية، فكلمة واحدة هي "رأي" قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رؤى؛ فرؤيتك وأنت يقظان يقال عنها "رؤية"؛ ورؤيتك وأنت نائم يقال عنها "رؤيا". والرؤية مصدر متفق عليه من الجميع: فأنت ترى ما يراه غيرك؛ وأما "الرؤيا" فهي تأتي للنائم. وهكذا نجد الالتقاء في "رأي" والاختلاف في الحالة؛ هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة. وفي الأعراب كلاهما مؤنث؛ لأن علامة التأنيث إما: "تاء" ، أو "ألف ممدودة"، أو "ألف مقصورة". وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة "التاء" وهي عمدة التأنيث؛ أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث.
ولا يقدح في كلمة "رؤيا" أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن حيث تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عرج به صلى الله عليه وسلم؛ فقال:

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.....(60)
(سورة الإسراء)


ولكن من يقولون: "إنها رؤيا منامية" لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول؛ فالمعنى هو: إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام، ولكنه حدث في الواقع؛ بدليل أنه قال عنها: أنها "فتنة للناس". فالرسول صلى الله عليه وسلم لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذبه أحد فيما قال: لكنه أعلن أنها رؤيا حقيقية؛ لذلك عبر عنها القرآن بأنها فتنة للناس. وهنا يقول يعقوب عليه السلام:

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ....... (5)
(سورة يوسف)


لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمون على ابنه يوسف؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه، وحين يقص يوسف رؤياه على أبيه، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدله عليه. أما إن قص الرؤيا على إخوته؛ فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم، وقد كان. وإن تساءل أحد: ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية، رأى فيها الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له؟
نقول: لابد أن يعقوب عليه السلام قد علم تأويل الرؤيا: وأنها نبوءة لأحداث سوف تقع؛ ولابد أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضا قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا، ولو قالها يوسف لهم لفهموا المقصود منها، ولابد حينئذ أن يكيدوا له كيداً يصيبه بمكروه. فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو مازال طفلاً، فما باله بضيقهم إن علموا مثل هذه الرؤيا التي سيجد له فيها الأب والأم مع الإخوة.
ولا يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الأشرار؛ فهم الأسباط؛ وما يصيبهم من ضيق بسبب علو عاطفة الأب تجاه يوسف هو من الأغيار التي تصيب البشر، فهم ليسوا أشراراً بالسليقة؛ لأن الشرير بالسليقة تتصاعد لديه حوادث السوء، أما الخير فتتنزل عنده حوادث السوء. والمثال على ذلك: أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنساناً آخر صفعة على الخد؛ ولكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان، فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلاً من صفعة واحدة؛ ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان؛ فيرغب أن يزيد العدوان بأن يصوب عليه مسدساً؛ وهكذا يصعد الشرير تفكيره الإجرامي.
أما الخير فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه "علقة"؛ ولكنه يقلل من التفكير في رد الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربة صفعتين بدلاً من "العلقة"، ثم يهدأ قليلا ويعفو عمن أساء إليه. وإخوة يوسف ـ وهم الأسباط ـ بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف، فقالوا لبعضهم:

اقْتُلُوا يُوسُفَ....(9)
(سورة يوسف)


ثم هبطوا عن هذه الدرجة المؤلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادة محبة أبيهم ليوسف، فقالوا:

أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ....(9)
(سورة يوسف)

 

وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضا ترددوا؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجب لعل أن يلتقطه بعض السيارة. فقالوا:

وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ.....(10)

(سورة يوسف)

وهذا يدل على أنهم تنزلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة؛ بل إنهم فكروا في نجاته. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:

.....لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ........(5)
(سورة يوسف)


والكيد: احتيال مستور لمن لا تقوى على مجابهته، ولا يكيد إلا الضعيف؛ لأن القوي يقدر على المواجهة. ولذلك يقال: إن كيد النساء عظيم؛ لأن ضعفهن أعظم. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:

 

...... إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)

(سورة يوسف)

وهذه العداوة معروفة لنا تماماً؛ لأنه خرج من الجنة معلوناً مطروداً؛ عكس آدم الذي قبل الله توبته؛ وقد أقسم الشيطان بعزة الله ليغوين الكل، واستثنى عباد الله المخلصين.

<ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم">

ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوة مبنية. أي: محيطة. وحين نقرأ القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة:

... لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ .... (17)
(سورة الأعراف)


ولم يأت ذكر للمجيء من الفوقية أو من التحتية؛ لأن من يحيا في عبودية تحتية؛ عبادية فوقية؛ لا يأتيه الشيطان أبداً. ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطبا يوسف عليه السلام في هذه الآية:

...... فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا......(5)
(سورة يوسف)


ولم يقل: فيكيدوك، وهذا من نضج نبوة يعقوب عليه السلام على لسانه؛ لأن هناك فارقاً بين العبارتين، فقول: "يكيدوك" يعني أن الشر المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى. أما

..... فَيَكِيدُوا لَكَ .....(5)
(سورة يوسف)


فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك سيكون لحسابك ويأتي بالخير لك. ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة:

....كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ.....(76)
(سورة يوسف)


أي: كدنا لصالحه. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)