قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة، لا تبعثر ما سوف يأتي في سنين الخصب؛ لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة، وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم. وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلى بهما يوسف عليه السلام. وقد يقول قائل: أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية؟ والقاعدة تقول: إن طالب الولاية لا يولى.
فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته وتحقيقاً لرسالته، حيث أنه كان آمراً فيستجاب، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق. وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه.
ومثال ذلك: لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة؛ ثم هاجت الرياح وهبت العاصفة؛ وتعقدت الأمور؛ وارتبك القبطان، وجاءه من يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك. هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة؛ وبعد أن ينتهي الموقف؛ على القبطان أن يوجه الشكر لهذا الخبير؛ ويعود لقيادة السفينة.
إذن: فمن حق الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعين عليه ذلك، بأن يرى أمراً يتعرض له غير ذي خبرة يفسد هذا الأمر، وهو يعلم وجه الصلاح فيه. وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع. وفي مثل هذه الحالة نجد من طلب الولاية وهو يملك شجاعتين:
الشجاعة الأولى: أنه طلب الولاية لنفسه؛ لثقته في إنجاح المهمة.
والشجاعة الثانية: إنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصباً لا يعلم إدارته، وبهذا يصير الباطل متصرفاً. وبذلك يظهر وجه الحق؛ ويزيل سيطرة الباطل. ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك:

....اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
(سورة يوسف)


والخزائن يوجد فيها ما يمكن السيطرة عليها من قيادة الاقتصاد. وقالوا: إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجدب، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحفظاً وعلماً.
وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغب في الميرة الأثمان من ذهب وفضة، ومن لا يملك ذهباً وفضة كان يحضر الجواهر من الأحجار الكريمة؛ أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاماً. ومن لا يملك كان يحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق، أي: يقول رب الأسرة الفقيرة: خذ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة.
وكان يوسف عليه السلام يحسن إدارة الأمر في سنوات الجدب ليشد كل إنسان الحزام على البطن، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في معي واحد،

<كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء">
أخرجه مسلم فى صحيحه من حديث جابر وابن عمر رضى الله عنهما

وكان التموين في سنوات الجدب يقتضي دقة التخطيط، ولا يحتمل أي إسراف. ومادام لكل شيء ثمن يجب أن يدفع، فكل إنسان سيأخذ على قدر ما معه، وبعد أن انتهت سنوات الجدب، وجاءت سنوات الرخاء؛ أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه.
وحين سئل: ولماذا أخذت منهم مادمت قد قررت أن ترد لهم ما أخذته؟
أجاب: كي يأخذ كل إنسان في أقل الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض، وهو يشتري الخبز المدعم ليطعم به الماشية، وحين يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود، ويحرص على ألا يلقي مما اشترى شيئاً. وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة؛ لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه.
ونحن نرى ذلك الأمر، وهو يتكرر في حياتنا؛ فحين لا يجد أحد ثمن اللحم فقد لا تهفو نفسه إلى اللحم، وقد يعلن في كبرياء: "إن معدتي لم تعد تتحمل اللحم". وقد يعلن الفقير حبه للسمك الصغير؛ لأن لحمه طيب، عكس السمك الكبير الذي يكون لحمه "متفلاً"، أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج، لأنه لذيذ الطعم.
وقديماً في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل، ونحن نعيش بعيداً عن بيوت الأهل في سنوات الدراسة، ولا نجد إلا قرصاً واحداً من "الطعمية"، كنا نقسم هذا القرص ليكفي آخر لقمة في الرغيف، أما إذا دخلنا ووجدنا خمسة أقراص من الطعمية، فكان الواحد منا يأكل نصف قرص من الطعمية مع لقمة واحدة.
وهكذا يتحمل كل واحد على قدر حركته وقدرته. والشاعر يقول:
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)