وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(30)
سورة البقرة
بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى. أنه خلق جميع ما في الكون. أراد أن يخبرنا عمن خلفه لعمارة هذا الكون. فكأن القصة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها قصص القرآن كانت هي قصة آدم أول الخلق. ولقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم كثيرا لتدلنا لماذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بهذه القصة؟ وجاءت لتدلنا أيضا على صدق البلاغ عن الله. واقرأ قوله تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ
(من الآية 13 سورة الكهف)
كلمة الحق التي جاءت هنا لتدلنا على أن هناك قصصا. ولكن بغير حق. والله سبحانه
وتعالى أراد أن يخرج قصصه عن دائرة القصص التي يتداولها الناس أو قصص التاريخ
لإمكان مخالفتها الواقع وتأتي بغير حق. وهناك قصص تروي في الدنيا ولا واقع لها، بل
هي من قبيل الخيال. وكلمة قصة. مأخوذة من قص الأثر. بمعنى أن يتبع قصاص الأثر في
الصحراء الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلي مراده. عندما يصل إلي نهاية
الأثر .. ومادمنا قد عرفنا أن الله يقص الحق. نعرف أن قصص القرآن الكريم كلها أحداث
وقعت فعلا. ولكل قصة في القرآن عبرة. أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا
إليه. فمرة تكون القصة لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت المؤمنين: واقرأ
قوله تعالى:
وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
(من الآية 120 سورة هود)
فكل قصة تثبت فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث. وقصص
القرآن ليست لقتل الوقت. ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة
الإيمانية. ولو نظرنا إلي قصص القرآن الكريم نجد أنها تتحدث عن أشياء مضت وأصبحت
تاريخا. والتاريخ يربط الأحداث بأزمانها. وقد يكون التاريخ لشخص لا لحدث. ولكن
الشخص حدث من أحداث الدنيا. ولو قرأت تاريخ كل حدث لوجدت أنه يعبر عن وجهة نظر
راويه. فكل قصص التاريخ كتبت من وجهات نظر من رووها. ولذلك. فالقصة الواحدة تختلف
باختلاف الراوي.
ولكن قصص القرآن الكريم. هو القصص الحق .. والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل
لنا أحداثا في التاريخ. تتكرر على مر الزمن. ففرعون مثلا هو كل حاكم يريد أن يعبد
في الأرض. وأهل الكهف مثلا هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد
الله. وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل أخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على
بعضهم. وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا
ومكنه في الأرض. فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله. وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا
معجزة من الله. فحققها لهم فكفروا بها. وقصة شعيب عليه السلام .. هي قصة كل قوم
سرقوا في الميزان والمكيال.
وهكذا كل قصص القرآن. قصص تتكرر في كل زمان. حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه
أكثر من فرعون. وأكثر من أهل كهف يفرون بدينهم. وأكثر من قارون يعبد المال والذهب
.. ويحسب أنه استغنى عن الله. ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مجهلة إلا قصة واحدة هي
قصة عيسى بن مريم ومريم ابنة عمران. لماذا؟ لأنها معجزة لن تتكرر. ولذلك عرفها الله
لنا فقال "مريم ابنة عمران" وقال "عيسى بن مريم" حتى لا يلتبس الأمر. وتدعي أي
امرأة أنها حملت بدون رجل. مثل مريم. نقول: لا. معجزة مريم لن تتكرر. ولذلك حددها
الله تعالى بالاسم. فقال: عيسى بن مريم. ومريم ابنة عمران .. أما باقي قصص القرآن
الكريم فقد جاءت مجهلة. فلم يقل لنا الله تعالى من هو فرعون موسى. ولا من هم أهل
الكهف ولا من هو ذو القرنين ولا من هو صاحب الجنتين. إلي آخر ما جاء في القرآن
الكريم. لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصا بعينه. لا تتكرر القصة مع غيره، وبعض
الناس يشغلون أنفسهم بمن هو فرعون موسى؟ ومن هو ذو القرنين .. الخ نقول لهم لن
تصلوا إلي شيء لأن الله سبحانه وتعالى قد روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص. لنعرف
أنه ليس المقصود شخصا بعينه. ولكن المقصود هو الحكمة من القصة.
والقصص في القرآن لا ترد مكررة. وقد يأتي بعض منها في آيات. وبعض منها في آيات
أخرى. ولكن اللقطة مختلفة. تعطينا في كل آية معلومة جديدة. بحث أنك إذا جمعت كل
الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم. تجد أمامك قصة كاملة متكاملة. كل آية تضيف شيئا
جديدا. وأكبر القصص في القرآن الكريم. قصة موسى عليه السلام. ويذكرنا القرآن الكريم
بها دائما لأن أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ. وفي كل مناسبة يذكرنا الله
بلقطة من حياة هؤلاء. واقرأ قوله تعالى:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(7)
(من الآية 7 سورة القصص)
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:
إِذْ
أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أَنِ
اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ
(من الآية 38،39 سورة طه)
والفهم السطحي
يظن أن هذا تكرار ونقول لا. فقوله تعالى: "وأوحينا إلي أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت
عليه فألقيه في اليم". وهذه اللقطة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يعد أم موسى
إعدادا إيمانيا للحدث. ولكن عند وقوع الحدث تتغير القصة على نمط سريع "أن اقذفيه في
التابوت" فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل". كلام يناسب لحظة وقوع الحدث ..
فالآية الأولى .. بينت لنا أن أم موسى أرضعته قبل أن تضعه في التابوت .. وأنها
ستلقيه في اليم عندما يحدث خطر وتخاف عليه من القتل. وفيه تطمين لها. ألا تخاف ولا
تحزن. لأن الله منجيه. وفيها بشارتان: أن الله سيرده لأمه. وأن الله قد اختاره
رسولا.
نأتي إلي الآية الثانية التي تكمل لنا هذه اللقطة فتول "اقذفيه في التابوت" هنا
نعرف أن أم موسى ستلقيه في تابوت، وهو ما لم يذكر في الآية السابقة. ثم بعد ذلك
نعلم أن الله سبحانه وتعالى أصدر أمره إلي الماء أن يلقي التابوت إلي الساحل. وهذا
ما لم يرد في الآية السابقة. ونعرف أيضا أن الذي سيأخذه هو فرعون. ستكون بينهما
عداوة متبادلة .. وهكذا نرى أن آيتي القصة. يكمل بعضهما بعضا. وليس هناك تكرار.
والله سبحانه وتعالى في الآية الثانية يريد أن يثبت أنه ستكون هناك عداوة متبادلة
بين موسى وفرعون .. كما أثبتت عداوة فرعون لله جل جلاله ولموسى، فقال: "عدو لي وعدو
له" ولكن العداوة لا تستقر إلا إذا كانت متبادلة. فتأتي آية ثالثة لتكمل الصورة ..
في قوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً
(من الآية 8 سورة القصص)
وهكذا بينت لنا الآية الكريمة كيف أن العداوة بين فرعون وموسى ستستقر حتى يقضي على
فرعون. لأنه إذا كان إنسان عدوا لك. وأنت تقابل العداوة بالإحسان تخمد العداوة بعد
قليل. إذن هذه الآيات ليست تكرارا ولكنها آيات تكمل القصة .. وتعطينا الصورة
الكاملة المتكاملة. ولكن لماذا لم تأت قصة موسى متكاملة كقصة يوسف؟ لأن الله سبحانه
وتعالى يريد أن يثبت بها نبينا عليه الصلاة والسلام والمؤمنين. فتأتي هنا لقطة وهنا
لقطة لتؤدي ما هو مطلوب من التثبيت بما لا يخل .. لأن الآيات تعطينا القصة متكاملة.
وهكذا قصة آدم. جاءت لنا في آيات متعددة؛ لتعطينا في مجموعها قصة كاملة. وفي الوقت
نفسه كل آية لها حكمة يحتاج إليها التوقيت الذي نزلت فيه .. فالله سبحانه وتعالى
يروي لنا بداية الخلق.
<ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب"> رواه
البزار عن حذيفة باسناد صحيح
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعرفنا كيف بدأ الخلق. وقصة عداوة إبليس لآدم وذريته
.. فتكلم الله سبحانه وتعالى عن أول البشر. عرفنا اسمه. وهو آدم عليه السلام. وتكلم
عن المادة التي خلق منها. وتكلم عن المنهج الذي وضعه لآدم. وحدثنا عن النقاش الذي
دار مع الملائكة. كما أخبرنا بأن آدم سيكون خليفة في الأرض. وأنه علمه الأسماء كلها
ليقود حركة حياته. وعلمنا منطق علم الأشياء. وعلم مسمياتها. وحدثنا عن الحوار الذي
حدث بين إبليس أمام ربه حينما أبى السجود. وبين لنا حجة إبليس في الامتناع عن
السجود، وخطة إبليس ومدخله إلي قلوب المؤمنين بالإغواء والوسوسة وغير ذلك. إذن
فهناك أشياء كثيرة تتعرض لها قصة آدم، ولو أن بشرا يريد أن يؤرخ لآدم ما استطاع أن
يأتي بكل هذه اللقطات. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل كل لقطة تأتي للتثبيت.
والآية الكريمة التي نحن بصددها لم تأت في الأعراف ولا في الحجر ولا في الإسراء ولا
في الكهف ولا في طه. وبهذا نعرف أنه ليس هناك تكرار .. فالله سبحانه وتعالى أخبر
ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة. هنا لابد لنا من وقفة. أخلق آدم كفرد. أم خلقه
الله وكل ذريته مطمورة فيه إلي يوم القيامة، إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الله
سبحانه وتعالى يقول:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ
اسْجُدُواْ لآدَمَ
(من الآية 11 سورة الأعراف)
الخطاب هنا للجميع. لآدم وذريته. فكأنه سبحانه وتعالى يشير إلي أن الأصل الأول
للخلق آدم، وهو مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلي أن تقوم الساعة وراثة. أي
أنه ساعة خلق آدم .. كان فيه الذرات التي سيأخذ منها الخلق كله. هذا عن هذا .. حتى
قيام الساعة. ولقد قلت إن كل واحد منا فيه ذرة أو جزئ من آدم، فأولاد آدم أخذوا منه
والجيل الذي بعدهم أخذ من الميكروب الحي الذي أودعه آدم في أولاده. والذين بعدهم
أخذوا أيضا من الجزيء الحي الذي خلق في الأصل مع آدم. وكذلك الذين بعدهم. والذين
بعدهم. والحياة لابد أن تكون حلقة متصلة. كل منا يأخذ من الذي قبله ويعطي الذي
بعده. ولو كان هناك حلقة مفقودة. لتوقفت الحياة. كأن يموت الرجل قبل أن يتزوج. فلا
تكون له ذرية من بعده. تتوقف حلقة الحياة. فكون حلقة الحياة مستمرة. دليل أنها حياة
متصلة. لم تتوقف. ومادامت الحياة من عهد آدم إلي يومنا هذا متصلة. فلابد أن يكون في
كل منا ذرة من آدم الذي هو بداية الحياة وأصلها. وانتقلت بعده الحياة في حلقات
متصلة إلي يومنا هذا وستظل إلي يوم القيامة.
فأنا الآن حي. لأنني نشأت من ميكروب حي من أبي. وأبي أخذ حياته من ميكروب حي من
أبيه. وهكذا حتى تصل إلي آدم، إذن فأنت مخلوق من جزيء حي فيه الحياة لم تتوقف منذ
آدم إلي يومنا هذا. ولو توقفت لما كان لك وجود. إذن فحياة الذين يعيشون الآن موصولة
بآدم. لم يطرأ عليها موت. والذين سيعيشون وقت قيام الساعة حياتهم أيضا موصولة بآدم
أول الخلق. والحق سبحانه وتعالى. حين أمر الملائكة بالسجود لآدم. فإنهم سجدوا لآدم
ولذريته إلي أن تقوم الساعة. وذرية آدم كانت مطمورة في ظهره. وشهدت الخلق الأول.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: "لقد خلقناكم ثم صورناكم" فيه جزئية جديدة لقصة
الخلق.
وقوله تعالى: "وإذا قال ربك للملائكة" أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد
عليه الصلاة والسلام أن يقول أنه عند خلق آدم. خلقه خليفة في الأرض. والكلام هنا لا
يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحدا في الخلق. بدليل أنه قال "أني جاعل" إذن
فهو أمر مفروغ منه. ولكنه إعلام للملائكة .. والله سبحانه وتعالى. عندما يحدث
الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة. فهناك المدبرات أمرا. والحفظة الكرام.
وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا
المخلوق الجديد. فكان الإعلام. لأن للملائكة عملا مع هذا الخليفة.
قد يقول بعض الناس. أن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس نقول ما يدريك
أن وراء كل ناموس ملكا؟ ولكن هذا الخليفة سيخلف من؟ قد يخلف بعضه بعضا. في هذه
الحالة يكون هنا إعلام من الله بأن كل إنسان سيموت ويخلفه غيره. فلو كانوا جميعا
سيعيشون ما خلف بعضهم بعضا. وقد يكون الإنسان خليفة لجنس آخر. ولكن الله سبحانه
وتعالى .. نفى أن يخلف الإنسان جنسا آخر. واقرأ قوله جل جلاله:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(19)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(20)
(سورة إبراهيم)
والخلق
الجديد هو من نوع الخلق نفسه الذي أهلكه الله. والله سبحانه وتعالى يخبرنا أن البشر
سيخلفون بعضهم إلي يوم القيامة .. فيقول جل جلاله:
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً(59)
(سورة مريم)
ولكن هذا يطلق عليه خلف. ولا يطلق عليه خليفة. والشاعر يقول:
ذهب الذين يعاش في اكـنافهم وبقـيت في خلف كجلد الأجرب
ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق وجعل الكون مسخرا له فكأنه خليفة
الله في أرضه. أمده بعطاء الأسباب. فخضع الكون له بإرادة الله. وليس بإرادة
الإنسان. والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي:
"يا بن آدم تفرغ لعبادي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك .. وإلا تفعل ملأت يدك شغلا ولم أسد فقرك".رواه احمد والترمذى وابن ماجة والحاكم عن ابى هريرة
إذن كلمة خليفة. تأخذ عدة
معان .. ماذا قالت الملائكة: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك". كيف عرف الملائكة ذلك؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها.
أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض. ولكن كلمة سفك وكلمة دم. كيف عرفتهما الملائكة
وهي لم تحدث بعد؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة. والله سبحانه وتعالى يقول:
وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(27)
(سورة الحجر)
فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان. وقوله تعالى: "أني أعلم ما لا تعلمون". معنى ذلك أن
علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك. أما علم الله سبحانه وتعالى .. فهو أزلي لا
نهائي. ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنا أم أسروه في
أنفسهم؟ سواء قالوه أم أسروه. فقد علمه الله. لأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنه
يعلم السر وأخفى. فما هو السر. وما هو الأخفى من السر؟ السر هو ما أسررته إلي غيرك.
فما أسر به إلي غيري. فهو السر. وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد. هو أخفى من
السر. فلا يقال أسررت إلا إذا بحت به لغيري. أما ما أخفيه في صدري. فلا يعلمه أحد
إلا الله. فهذا هو ما أخفى من السر. وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: "إني أعلم ما
لا تعلمون" أراد أن يعطي القضية بعدها الحقيقي. وقد حكى القرآن الكريم قول
الملائكة: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك".والتسبيح هو التنزيه عما لا يليق بذات
المنزه. والتقديس هو التطهير .. مأخوذ من القدس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به.
ولذلك نحن نقول سبوح قدوس. سبوح أي منزه عن كل ما لا يليق بجلاله. وقدوس. أي مطهر
.. التسبيح يحتاج إلي مسبح. وإلي ما نسبحه. والملائكة قالوا: "سبحانك لا علم لنا
إلا ما علمتنا".
وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى .. والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال
المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة .. والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده لذلك
صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى. فلا تسمع في حياتك
أن إنسانا قال لبشر سبحانك. وهكذا صرفت السنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه
وتعالى. وقول الملائكة: "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" كأن نقول سبحان الله وبحمده.
ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته .. فلا تشبه بذات. وفي صفاته. فلا تشبه
بصفات وفي أفعاله. فلا تشبه بأفعال .. ولكن ما معنى كلمة وبحمده؟ معناها أننا ننزهك
ونحمدك. أي يا رب تنزيهنا لك نعمة. ولذلك فأني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك
.. والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار. ولأنك يا ربي قدوس طاهر.
لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر. ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر.. إنه
عرفنا معنى نسبح بحمدك ونقدس لك. ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال:
"أني أعلم ما لا تعلمون" ولم يطلقها هكذا. ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق
الواقع