وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(50)
سورة البقرة
مرة ثانية
"وإذ". ويأتي الانجاء وسيلة. هذه الوسيلة ذكرتها الآية الكريمة. فقد خرج موسى وقومه
وكانوا ستمائة ألف كما تقول الروايات. وعرف فرعون بخروجهم فخرج وراءهم على رأس جيش
من ألف ألف (مليون). عندما رآهم قوم موسى كما يروي لنا القرآن الكريم:
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا
(من الآية 129 سورة الأعراف)
وعندما جاء قوم فرعون بعددهم الضخم يقاومون قوم موسى وتراءى الجمعان أي أنهم رأوهم
رؤية العين قال قوم موسى "أنا لمدركون" وهذا كلام منطقي. فأمامهم البحر ووراءهم
فرعون وجنوده. ولكن حين تخرج الأحداث من نطاق الأسباب إلي قدرة المسبب فهي لا تخضع
لأسباب الكون. "كلا أن معي ربي سيهدين". وبذلك نقل المسألة من الأسباب إلي المسبب
تبارك وتعالى. فبمنطق الأحداث يكون فرعون وجنوده سيدركونهم. ولكن بمنطق الحق سبحانه
وتعالى فإنه سيهيئ لهم طريق النجاة. وأوحى الله سبحانه وتعالى إلي موسى بأن يضرب
بعصاه البحر وأصبح كل جزء منه كالجبل. ذرات الماء تماسكت مع بعضها البعض لتكون
جبلين كبيرين بينهما يابس يمر منه بنو إسرائيل.
هذا هو معنى قوله تعالى: "وإذ فرقنا بكم البحر" والفرق هو الفصل بين شيئين .. وإذا
كان البحر قد انشق .. فأين ذهب الطين المبتل في قاع البحر؟ .. قالوا أن الله أرسل
ريحا مرت عليه فجففته. ولذلك قال الحق جل جلاله: "طريقا في البحر يبسا" ويقال أنه
حين كان موسى وقومه يعبرون البحر سألوا عن بقية إخوانهم. فقال لهم موسى أنهم في طرق
أخرى موازية لطريقنا. قالوا نريد أن نطمئن عليهم. فرفع موسى يده إلي السماء وقال
اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. فأوحى الله إلي موسى أن يضرب بعصاه الحواجز فانفتحت
طاقة بين كل ممر. فكانوا يرون بعضهم بعضا. وعندما رأى موسى عليه السلام فرعون وجيشه
يتجهون إلي البحر ليعبروه. أراد أن يضرب البحر ليعود إلي السيولة. فلا يلحق بهم آل
فرعون. ولكن الله أوحى إليه:
وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ(24)
(سورة الدخان)
أي أترك البحر على ما هو عليه. حتى يتبعكم قوم فرعون. ظانين أنهم قادرون على أن
يسلكوا نفس الطريق ويمشوا فيه. وحينما يكون أولهم قريبا من شاطئكم وأخرهم عند
الشاطئ الآخر. أعيد الماء إلي استطراقه. فأكون قد أنجيت وأهلكت بالسبب الواحد.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يمن على بني إسرائيل بأنه أنجاهم من العذاب وأهلك
عدوهم. فكان العطاء عطاءين. عطاء إيجاب بأن أنجاهم وعطاء سلب بأن أهلك عدوهم. وقوله
تعالى: "وأنتم تنظرون" في هذه الآية لم يتحدث الحق جل جلاله عن فرعون. وإنما حدث عن
إغراق آل فرعون. لماذا؟ لأن آل فرعون هم الذين أعانوه على جبروته وبطشه وطغيانه. هم
الأداة التي استخدمها لتعذيب بني إسرائيل.
والله سبحانه وتعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون فوقفوا
يشاهدونهم. وأنت حين ترى مصرع عدوك. تشعر بالمرارة التي في قلبك تزول "وأنتم
تنظرون" تحتمل معنى آخر. أي ينظر بعضكم إلي بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا
البلاء العظيم. وفي نفس الوقت تطمئنون وأنتم تشاهدونهم وهم يغرقون دون أن ينجو منهم
أحد حتى لا يدخل في قلوبكم الشك. أنه ربما نجى بعضهم وسيعودون بجيش ليتبعوكم