وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(103)
سورة البقرة
يفتح الله جل
جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة .. لقد بين لهم أن السحر كفر، وان من يقوم
به يبعث كافرا يوم القيامة ويخلد في النار .. وقال لهم سبحانه وتعالى لو أنهم
امتنعوا عن تعلم السحر ليمتازوا به على من سواهم امتيازا في الضرر والإيذاء .. لكان
ذلك خيرا لهم عند الله تبارك وتعالى .. لأن الملكين اللذين نزلا لتعليم السحر قال
الله سبحانه عنهما: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر".
إذن فممارسة السحر كفر. فلو أنهم آمنوا بهذه القضية وبأنهم يدخلون في الكفر واتقوا
الله لكان ذلك ثوابا لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة .. ولكن ما هي المثوبة؟
هي الثواب على العمل الصالح .. يقابلها العقوبة وهي العقاب على العمل السيئ .. وهي
مشتقة من ثاب أي رجع .. ولذلك يسمى المبلغ عن الإمام في الصلاة المثوب .. لأن
الإمام يقول الله اكبر فيرددها المبلغ عن الإمام بصوت عال حتى يسمعها المصلون الذين
لا يصلهم صوت الإمام .. وهذا اسمه التثويب .. أي إعادة ما يقوله الإمام لتزداد فرصة
الذين لم يسمعوا ما قاله الإمام .. وكما قلنا فهي مأخوذة من ثاب أي رجع .. لأن
الإنسان عندما يعمل صالحا يرجع عليه عمله الصالح بالخير .. فلا تعتقد أن العمل
الصالح يخرج منك ولا يعود .. ولكنه لابد أن يعود عليك بالخير.
ثم يعطيه لآخر ليغزله وينسجه ثوبا ويعيده إلي صاحبه .. فكأن ما أرسله من الصوف رد
إليه كثوب .. ولذلك سميت مثوبة لأن الخير يعود إليك لتنتفع به نفعا عاليا .. وكذلك
الثواب عن العمل الصالح يرتد إليك بالنفع العالي. إذن فكلمة ثوب جاء منها الثواب،
والله سبحانه وتعالى علمنا أن الثواب لستر العورة .. والعمل الصالح يستر الأمراض
المعنوية والنفسية في الإنسان .. وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
قَدْ
أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ
التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ
(من الآية 26 سورة الأعراف)
فكأن هناك لباسين أحدهما لستر العورة .. والثاني لستر الإنسان من العذاب .. ولباس
التقوى خير من لباس ستر العورة .. قوله تعالى: "لمثوبة من عند الله خير" .. انظر
إلي المثوبة التي تأتي من عند الله .. إذا كان الثواب يأتيك من عند من صنعه جميلا
مزركشا وله ألوان مبهجة .. إذا كان هذا ما صنعه لك بشر فما بالك بالثواب الذي يأتيك
من عند الله. إنه قمة الجمال. فالله هو القادر على أن يرد الثواب بقدراته سبحانه
فيكون الرد عاليا وعاليا جدا، بحيث يضاعف الثواب مرات ومرات. على أننا لابد أن
نتنبه إلي قول الله تعالى: "ولو أنهم آمنوا واتقوا قلنا معنى اتقوا أنهم جعلوا
بينهم وبين صفات الجلال في الله وقاية .. ولذلك قلنا إن بعض الناس يتساءل .. كيف
يقول الله تبارك وتعالى: "اتقوا الله" .. ويقول جل جلاله: "اتقوا النار" .. نقول إن
معنى اتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية: "واتقوا النار"
.. أي اجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقاية .. لأن النار من متعلقات صفات الجلال ..
لذلك فإن قوله: "اتقوا الله" .. تساوي: "اتقوا النار" .. والحق تبارك وتعالى حينما
قال: "اتقوا" أطلقها عامة .. والحذف هنا المراد به التعميم .. والله سبحانه وتعالى
يريد أن يلفتنا إلي أن السحرة لو آمنوا بأن تعلم السحر فتنة تؤدي إلي الكفر ..
واتقوا الله وخافوا عذابه في الآخرة لكان ذلك خيراً لهم .. لذلك قال جل جلاله:
"لمثوبة من عند الله خير".
وساعة تسمع كلمة خير تأتي إلي الذهن كلمة شر .. لأن الخير يقابله الشر .. ولكن في
بعض الأحيان كلمة خير لا يقابلها شر. ولكن يقابلها خير أقل. وكلمة خير هي الوحيدة
في اللغة العربية التي يساوي الاسم فيها افعل التفضيل .. فأنت تقول هذا فاضل وهذا
مفضول عليه .. كلمة خير اسم تفضيل فيقال ذلك خير من كذا .. أي واحد منهما يعطي أكثر
من الآخر .. وكلمة خير إذا لم يأتي مقابلها أي خير من كذا يكون مقابلها شر .. فإذا
قلت فلان خير من فلان .. فكلاهما اشترك في الخير ولكن بدرجة مختلفة .. والخير هو ما
يأتي لك بالنفع .. ولكن مقياس النفع يختلف باختلاف الناس .. واحد ينظر إلي النفع
العاجل وآخر ينظر إلي النفع الآجل .. وفي ظاهر الأمر كل منهما أراد خيرا.
وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلي الأذهان فلنقل إن هناك أخوين أحدهما يستيقظ مبكراً
ليذهب إلي مدرسته والثاني ينام حتى الضحى، ويخرج من البيت ليجلس على المقهى ..
الأول يحب الخير لنفسه والثاني يحب الخير لنفسه والخلاف في تقييم الخير .. الكسول
يحب الخير العاجل فيعطي نفسه حظها من النوم والترفيه وعدم العمل .. والمجتهد يحب
الخير الآجل لنفسه لذلك يتعب ويشقى سنوات الدراسة حتى يرتاح بعد ذلك ويحقق مستقبلا
مرموقا. الفلاح الذي يزرع ويذهب إلي حقله في الصباح الباكر ويروي ويبذر الحب ويشقى،
يأتيه في آخر العام محصول وافر وخير كثير .. والفلاح الذي يجلس على المقهى طول
النهار أعطى نفسه خير الراحة، ولكن ساعة الحصاد يحصد الندم.
إذن كل الناس يحبون الخير ولكن نظرتهم ومقاييسهم تختلف .. فمنهم من يريد متعة
اليوم، ومنهم من يعمل لأجل متعة الغد .. والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالخير ..
قد يكون الخير متعبا للجسد والنفس .. ولكن النهاية متاع أبدي في جنة الخلد. إذن
فالخير الحقيقي هو ما جاء به الشرع .. لماذا؟ لأن الخير هو ما ليس بعده بعد .. فأنت
تولد ثم تكبر ثم تتخرج في الجامعة .. ثم تصبح في أعلى المناصب ثم تموت ثم تبعث ثم
تدخل الجنة .. وبعدها لا شيء إلا الخلود في النعيم. قوله تعالى: "لو كانوا يعلمون"
.. الله ينفي عنهم العلم بينما في الآية السابقة أثبت لهم العلم في قوله تعالى:
"ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق" .. نقول إن العلم الذي لا يخضع
حركة الإنسان له فكأنه لم يعلم شيئا .. لأن هذا العلم سيكون حجة على صاحبه يوم
القيامة وليته لم يعلمه .. واقرأ قول الشاعر:
رزقوا وما رزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
خلقوا وما خلقوا لمكرمة
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
فكأن العلم لم يثبت لك لأنك لم تنفع به .. والله سبحانه وتعالى يقول:
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(من الآية 6 سورة الروم)
(يعلمون ظاهرا
من الحياة الدنيا ..) وهكذا نفى الله عن الناس العلم الحقيقي .. وأثبت لهم العلم
الدنيوي الظاهر .. وقوله جل جلاله:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5)
(سورة الجمعة)
أي أنهم حملوا التوراة علما ولكنهم لم يحملوها منهجا وعملا .. وهؤلاء السحرة علموا
أن من يمارس السحر يكفر .. ومع ذلك لم يعملوا بما علموا