وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ(154)
سورة البقرة
الحق جل جلاله
يعلم أن أحداث الإيمان وخصوم الإيمان سيواجهون المسلمين بمشقة عنيفة .. لا تهددهم
في أموالهم فقط ولكن تهددهم في نفوسهم، فأراد الله عز وجل أن يعطي المؤمنين مناعة
ضد هذه الأحداث .. وأوصاهم بالصبر والصلاة يواجهون بها كل حدث يهزهم بعنف .. قال
لهم إن المسألة قد تصل إلي القتل .. إلي الاستشهاد في سبيل الله. وأراد أن يطمئنهم
بأن الشهادة هي أعلى مرتبة إيمانية يستطيع الإنسان المؤمن أن يصل إليها في الدنيا
فقال سبحانه: "ولا تقولون لمن يقتل في سبيل الله أموات". إن القتل هو أشد ما يمكن
أن يقع على الإنسان .. فأنت تصاب في مالك أو في ولدك أو في رزقك أو في صحتك، أما أن
تصاب في نفسك فتقتل فهذه هي المصيبة الكبرى .. والله سبحانه سمى الموت مصيبة واقرأ
قوله تعالى:
إِنْ
أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ
(من الآية 106 سورة المائدة)
الله تبارك وتعالى أراد أن يفهم المؤمنون أن الذي يقتل في سبيل الله لا يموت وإنما
يعطيه الله لونا جديدا من الحياة فيه من النعم ما لا يعد ولا يحصى يقول جل جلاله:
"ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون". ما هو مظهر
الحياة التي يعيشونها؟ الحياة عندنا مظهرها الحركة، والذي قتل في سبيل الله ما هي
حركته؟ حركته بالنسبة لغير المؤمنين خصوم الإسلام والإيمان بأنه لن يسلب منه الحياة
.. لأنه سيذهب إلي حياة أسعد والموت ينقله إلي خير مما هو يعيش فيها .. أما بالنسبة
للمؤمنين فإنه سيحمي لهم منهج الله ليصل إليهم إلي أن تقوم الساعة.
إن كل المعارك التي يستشهد فيها المؤمنون إنما هي سلسلة متصلة لحماية حركة الإيمان
في الوجود .. وعظمة الحياة ليست في أن أتحرك أنا ولكن أن اجعل من بعدي يتحرك ..
والمؤمن حين يستشهد يبقى أثره في الوجود لكل حركة من متحرك بعده .. فكل حركة لحماية
الإيمان تستشهد به وبما فعله وتأخذ من سلوكه الإيماني دافعا لتقاتل وتستشهد فكأن
الحركة متصلة والعملية متصلة .. أما الكافر فإن الحياة تنتهي عنده بالموت ولكن
تنتظره حياة أخرى حينما يبعث الله الناس جميعا ثم يأتي بالموت فيموت .. وحين يموت
الموت تصبح الحياة بلا موت إما في الجنة وإما في النار.
الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم أن من يقتل في سبيل الله هو حي عند ربه ينتقل من
الحياة الدنيا إلي الحياة الآخرة مباشرة .. ولا يكتب عليه الموت في حياة البرزخ حتى
يوم القيامة مثل من يموت ميتة طبيعية ولا يموت شهيدا .. ولأن هذه الحياة حياة
الشهداء أخفى الله سبحان عنا تفاصيلها لأنها من حياة الآخرة .. وهي غيب عنا قال
تبارك وتعالى: "ولكن لا تشعرون" .. ومادمنا لا نشعر بها فلابد أن تكون حياة أعلى من
حياتنا الدنيوية.
الذي استشهد في عرف الناس سلب نفسه الحياة ولكنه في عرف الله أخذ حياة جديدة ..
ونحن حين نفتح قبر أحد الشهداء نجد جسده كما هو فنقول إنه مت أمامنا .. لابد أن
تتنبه إنك لحظة فتحت عليه انتقل من عالم الغيب إلي عالم الشهادة والله سبحانه قال:
"أحياء عند ربهم" ولم يقل أحياء في عالم الشهادة .. فهو حي مادام في عالم الغيب
ولكن أن تفتح وتكشف تجده جسدا في قبره لأنه انتقل من عالم الغيب إلي عالم الشهادة
.. أما كيف؟ قلنا إن الغيب ليس فيه كيف .. لذلك لن تعرف وليس مطلوبا منك أن تعرف.
إننا حين نجري عملية جراحية لمريض يعطيه الطبيب (البنج) لكي يفقد الوحي والحس ولكن
لا يعطيه له ليموت ثم يبدأ يجري العملية فلا يشعر المريض بشيء من الألم. فالمادة لا
تحس لأنها هي التي أجريت عليها العملية والجسد لازال فيه الحياة من نبض وتنفس ولكنه
لا يحس .. ولكن النفس الواعية التي غابت هي التي تحس بالألم. أنت عندما يكون هناك
ألم في جسدك وتنام ينقطع الإحساس بالألم فكأن الألم ليس مسألة عضوية ولكنه مرتبط
بالوعي .. فعند النوم تنتقل إلي عالم آخر قوانينه مختلفة .. والعلماء فحصوا مخ
الإنسان وهو نائم فوجدوا أنه لا يستطيع أن يعمل اكثر من سبع ثوان يرى فيها رؤيا يظل
يحكيها ساعات .. فإذا قال الحق تبارك وتعالى: "إنهم أحياء عند ربهم" .. فلابد أن
نأخذ هذه الحياة على أنها بقدرات الله ومن عنده .. والله عز وجل أراد أن يقرب لنا
مسألة البعث والقيامة مثل مسألة النوم.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
(من الآية 42 سورة الزمر)
فكأن الحق جل جلاله يعطي الشهداء حياة دائمة خالدة لأنهم ماتوا في سبيله .. ومادام
تعالى قال: "لا تشعرون" فلا تحاول أن تدركها بشعورك وحسك لأنك لن تدركها على أن
الشهيد لابد أن يقتل في سبيل الله وليس لأي غرض دنيوي .. وإنما لتكون كلمة الله هي
العليا.