الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(197)
سورة البقرة
ولنا أن نلحظ أن
الحق قال في الصوم: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" ولم يذكر شهور الحج: شوالاً
وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان، لأن التشريع في رمضان خاص به فلابد أن
يعين زمنه، لكن الحج كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، ويعلمون شهوره وكل شيء
عنه؛ فالأمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به، والشهور المعلومة هي: شوال وذو
القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى، وشهر الحج لا يستغرق
منه سوى عشرة أيام، ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة، لأن بعض الشهر يدخل في الشهر.
وكلمة "معلومات" تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج، لأنها كانت معلومة
عندهم.
"فمن فرض فيهن الحج" والفرق ليس من الإنسان إنما الفرض من الله الذي فرض الحج ركنا،
وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلاً، وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد
فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك. وقوله سبحانه: "فرض" يدل
على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوباً. أي غير مفروض. "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث
ولا فسوق ولا جدال في الحج". والرفث للسان، وللعين. وللجوارح الأخرى رفث، كلها
تلتقي في عملية الجماع ومقدماته، ورفث اللسان في الحج أن يذكر مسألة الجماع، ورفث
العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة. فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع، أو هو الجماع
أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة، أو بالفعل.
والرفث وإن أبيح في غير الحج فهو محرم في الحج، أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي
غير الحج، فكأن الله ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج،
فليس من الأدب أن يكون المسلم في بيت الله ويحدث ذلك الفسوق منه، إن الفسوق محرم في
كل وقت، والحق ينبه هنا المسرف على نفسه، وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيداً عن
بيت الله فليستح أن يعصي الله في بيت الله؛ فالذاهب إلى بيت الله يبغي تكفير الذنوب
عن نفسه، فهل يعقل أن يرتكب فيه ذنوباً؟ لابد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت
الله، والعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يحاسب فيه على مجرد الإرادة.
ويقول الله عز وجل:
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
(من الآية 25 سورة الحج)
إذن الرفث حلال في مواضع، لكنه يحرم في البيت الحرام، ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت،
وامتناعه أشد في البيت الحرام. والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فلا يصح أن يوجد
في الحج. ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق، ودون مرتبة العصيان،
والرسول قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"رواه
احمد والبخارى والنسائى وابن ماجه لم يقل: "ولم يجادل" إن بشرية الرسول
تراعي ظروف المسلمين، فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثارة، فكأن
عدم ذكر الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن لا يصح أن نتمادى فيها. والجدال ممكن في
غير الحج بدليل:
وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(من الآية 125 سورة النحل)
إنما الحج لا جدال فيه. والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه
بالحجة. ثم انظر إلى تقدير الحق لظروف البشر وعواطف البشر والاعتراف بها والتقنين
لأمر واقع معترف به، فالحج يخرج الإنسان من وطنه ومن مكان أهله، ومن ماله، ومما ألف
واعتاد من حياة. وحين يخرج الإنسان هذا الخروج فقد تضيق أخلاق الناس؛ لأنهم جميعاً
يعيشون عيشة غير طبيعية؛ فهناك من ينام في غرفة مشتركة مع ناس لا يعرفهم، وهناك
أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إلا دورة مياه واحدة، ومن الجائز أن يرغب أحد في
قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر، وحين تكون هذه المسألة موجودة لا رأي لإنسان،
ولذلك يقال: "لا رأي لحاقن" أي لا رأي لمحصور .. أي لمن يريد قضاء حاجته من بول،
وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لأنها مسألة تخل توازن الإنسان.
إذن فالحياة في الحج غير طبيعية، وظروف الناس غير طبيعية، لذلك يحذرنا الحق من
الدخول في جدل؛ لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة
الآخرين، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين. وقد أثبتت
التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً، وإما أعداء ألداء.
ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج،
وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله،
وليشتغل بأنس الله، وليتحمل في جانبه كل شيء، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته.
والحق سبحانه وتعالى يقول: "وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد
التقوى". فبعد أن نهانا الحق بقوله: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" وتلك أمور
سلبية وهي أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر
بالأفعال الإيجابية، أفعال الخير التي يعلمها الله. إن الله يريد أن نجمع في
العبادة بين أمرين، سلب وإيجاب، سلب ما قال عن الرفث والفسوق والجدال، ويريد أن
نوجب ونوجد فعلا. "وما تفعلوا من خير يعلمه الله". وما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور
المقابلة للمسائل المنهي عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف
في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته الحلال له، فيمتنع عنها مادام
محرماً ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر وخير
وفي الجدال نجد
أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس، هذا
هو المقصود بقوله: "وما تفعلوا من خير يعلمه الله". وكلمة من قوله "من خير"
للابتداء، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيراً وهو سبحانه يرى أقل شيء
من الخير؛ ولذلك قال: "يعلمه الله". فكأنه خير لا يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل
الناس، والتعبير بـ"يعلمه الله" أي الخير مهما صغر، ومهما قل فإن الله يعلمه، وكثير
من الخيرات تكون هواجس بالنية، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه.
وقول الحق: "وتزودوا" والزاد: هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره، وكان هذا
أمراً مألوفا عند العرب قديما؛ لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام. وكل هذه
الظروف تغيرت الآن، وكذلك تغير عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك. كانت الناس
قديماً تذهب إلى الحج ومعها أكفانها، ومعها ملح طعامها، ومعها الخيط والإبرة، فلم
يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا
بكماليات الحياة، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلانا جاء من الحج ومعه كذا وكذا. كأن
الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي
زرع فقال:
يُجْبَى
إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ
(من الآية 57 سورة القصص)
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله: "يحبى" ومعناها يؤخذ بالقوى وليس باختيار من
يذهب به، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها، وهو رزق من
عند الله، وليس من يد الناس. وهذا تصديق لقوله تعالى:
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ
(من الآية 37 سورة إبراهيم)
وقوله الحق: "وتزودوا" مأخوذة ـ كما عرفنا ـ من الزيادة، والزاد هو طعام المسافر،
ومن يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته، ويأخذه حتى يكفيه مئونة
السؤال أو الاستشراف إلى السؤال؛ لأن الحج ذلة عبودية، وذلة العبودية يريدها الله
له وحده. فمن لا يكون عنده مئونة سفره فربما يذل لشخص آخر، ويطلب منه أن يعطيه
طعاما، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته
حتى يكفي نفسه، وتظل ذلته سليمة لربه، فلا يسأل غير به، ولا يستشرق للسؤال من
الخلق، ومن يسأل أو يستشرق فقد أخذ شيئا من ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه
المرحلة لله وهو يوجهها للناس، والله يريدها له خالصة.
وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته، وتتحول
رحلته من قصد البر إلى الشر. وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون:
"نحن متوكلون، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا؟". ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا، وهذا
سبب وجود النهب والسرقة في الحج. إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق
ليسد حاجته. ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر
فقال: "وتزودوا" إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان عن
ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه، ويقول سبحانه: "فإن خير الزاد التقوى" ونعرف
أن الزاد هو ما تقي به نفسك من الجوع والعطش، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء
حياتك الفانية، فما بالك بالحياة الأبدية التي لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد
اكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية.
إذن فقوله: "فإن خير الزاد التقوى" يشمل زاد الدنيا والآخرة. والله سبحانه وتعالى
يذكرنا بالأمور المحسة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية، ولكن إذا نظرت بعمق وصدق
وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية. ولذلك نلاحظ في قوله سبحانه
وتعالى:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ
وَرِيشاً
(من الآية 26 سورة الأعراف)
هذا أمر حسي. ويفيدنا ويزيدنا سبحانه "ريشاً" إنه ـ سبحانه ـ لا يواري سوءة فقط،
وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها، وهذه الكماليات هي الريش، أي ما
يتزين به الإنسان، ثم قال الحق:
وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ
(من الآية 26 سورة الأعراف)
أي أنعمت عليكم باللباس والريش، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو "لباس التقوى". فإن
كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه ستر عورتك ووقاك حراً وبرداً وتزينت بالريش منه
فافهم أن هذا أمر حسي، ولكن الأمر الأفضل هو لباس التقوى، لماذا؟ لأن مفضوح الآخرة
شر من مفضوح الدنيا. إذن فقوله: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي
الألباب". يعني أن الحق يريد منك أن تتزود للرحلة زاداً يمنعك عن السؤال والاستشراق
أو النهب أو الغصب، وأحذر أن يدخل في شيء مما حرم الله، ولكن تزودك في دائرة:
"واتقون يا أولي الألباب" أي يا أصحاب العقول، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من
عقل إلا وهو يريد منهم أن يحكموا عقولهم في القضية، لأنه جل شأنه يريد منك أن تحكم
عقلك، فإن حكمت عقلك في القضية فسيكون حكم العقل في صف أمر الله.
ولما كان الله ـ سبحانه ـ بسعة لطفه ورحمته ـ يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة
المباركة أن يتعاون الناس، أذن لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين تيسيراً
لهم. ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يرخص الله لهم في الحج أن ينفروا قبل
غيرهم؟ لأن تلك مصلحة ضرورية. فهب أن الناس جميعا امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضا فمن
الذي يقوم بمصالح الناس؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج، والله ـ
سبحانه وتعالى ـ
بين ذلك ووضحه بقوله:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ(198)
سورة البقرة
يتبع ان شاء الله فى تفسير الآية التالية