أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(246)
سورة البقرة
إن الحق
سبحانه يبلغنا بوسيلة السماع عنه، وعلينا أن نتلقى ذلك الأمر كأننا نراه بالعين،
فماذا نرى؟ "ألم تر إلى الملأ"، ما معنى الملأ؟ هي من ملأ يعني ازدحم الإناء، ولم
يعد فيه مكان يتحمل زائداً. وأن الظرف قد شغل بالمظروف شغلا لم يعد يتسع لسواه.
وكلمة "ملأ" تطلق على أشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا
يستطيع غيرهم أن يزاحمهم. و"الملأ" من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور.
"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى" أي ألم يأتك خبر وجوه القوم
وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام مثلا في عصر "يوشع" أو "حزقيل أو شمويل" أو أي
واحد منهم، ولا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا، المهم أنهم كانوا
بعد موسى عليه السلام. "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". لقد
اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصرا لهم وقالوا له:
ابعث لنا ملكا. ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك. وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم
وعدم وجود ملك لهم؟
نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك
فهو الذي يباشر الأعمال. ولو كانت النبوة تباشر أعمالا لما طلبوا من نبيهم أن يبعث
لهم ملكا. وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضه للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في
تصريف بعض الأمور، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا، ينقلون ذلك لمن هو أقل
وهو الملك. ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة
مرجعا للحق، ولا تكون موطنا للوم في أي شيء. الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال
لنبي بني إسرائيل: أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ ـ أي أشراف القوم ـ وأتيتم
بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه
لم تعد لكم ديار، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم. إذن
علة طلب القتال موجودة، ومع ذلك قال لهم النبي: "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا
تقاتلوا" لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال: إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في
سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم
عزما على القتال وتتخاذلون.
لكنهم قالوا: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا" ..
انظر إلى الدقة في قولهم: "في سبيل الله" وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من
ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا: إن القتال في سبيل الله
بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ في كل
أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في سبيله. وكان إخراجهم من ديارهم أمرا
معقولا، لكن كيف تخرجون من أبنائهم؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو، وربما
أخذهم العدو أسرى. لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم، وينطبق عليهم في علاقتهم
بالأبناء قول الشاعر:
إذا تـرحـلـت عـن قـوم وقـد قـدروا ألا تـفـارقـهم فالراحـلـون همـو
وانظر إلى التمحيص، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له: ابعث لنا
ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله، وقال لهم النبي ما قال وردوا
عليه هم: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟ وجاء
لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى: "فلما كتب عليهم القتال تولوا" إن قوله: "كتب"
لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء التعبير
بـ"كُتب" ولم يأت بـ"كَتبَ"، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال. لقد كان لنبيهم حق
في أن يتشكك في قدرتهم على القتال، ويقول لهم: "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا
تقاتلوا". ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟ لا؛ فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول
الشاعر:
إن الـذي جـعـل الحـقيـقة علقماً لم يـخـل مـن أهـل الحقـيـقـة جـيلاً
لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا
انحسرت الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول: "إني قليل"؛ لأن المقاييس ليست
بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى. وقد يكون عدوك كثيرا لكن ليس له رصيد
من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما
يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا". كلمة "إلا
قليلا" جاءت لتخدم قضية، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى:
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }
(من الآية 249 سورة البقرة)
أي أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه
تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. أنت ترى زهرة جميلة، والرؤية قدر مشترك عند الجميع،
ورآها غيرك، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك، بينما رآها إنسان آخر
فقطفها ولم يبال ملك من هي، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر، فالعدو
قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن
المواجيد تختلف. أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري رآهم كثيرين وقال: لا نقدر عليهم؛
لأنه أخرج ربه من الحساب.
"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين" إذن فالتولي
ظلم للنفس؛ لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه، وأنت أخرجت من ديارك
وظللت على هذا الحال، إذن فقد ظلمت نفسك، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك، وفوق ذلك
كله ظلمت قضيتك الدينية. إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا ظالمين لأنفسهم ولأهليهم
ولمجتمعهم وللقضية العقدية. وقوله الحق: "والله عليم بالظالمين" هو إشارة على أن
الله مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سرا، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس
وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر "الطابور الخامس" الذين يفتتون الروح المعنوية
دون أن يراهم أحد ولكن الله يعرفهم. لقد طلب هؤلاء القوم من بني إسرائيل من نبيهم
أن يبعث لهم ملكا، وكان يكفي النبي المرسل إليهم أن يختار لهم الملك ليقاتلوا تحت
رايته، لكنهم يزيدون في التلكؤ واللجاجة ويريدون أن ينقلوا الأمر نقلة ليست من
قضايا الدين.
ويقول الحق بعد ذلك:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247)
سورة البقرة
يتبع ان شاء الله فى تفسير الآية التالية