ناتى بعد فاتحة الكتاب الى سورة البقرة .. وهى التى تلى الفاتحة فى ترتيب المصحف الشريف .. واذا نرنا الى اسم السورة وجدنا ان لابد ان يثير انتباهنا .. لأن القرآن الكريم نزل فى بيئة عربية . ولم تكن البقرة وقت نزول القرآن الكريم حيوانا معروفا من الأنعام التى يعرفها العرب فى ذلك الوقت .
نقول ان اسم السورة قد أخذ من قضية أساسية فى الدين وهى الإيمان بالبعث .. وافيمان بالبعث هو اساس الدين ..فمن لا يؤمن بالخرة والحساب يفعل ما يشاء فى الدنيا دون اى وازع . لانه مادام ليس هناك بعث تصبح الدنيا غابة .. ويصبح الدين بلا مفهوم .. لأن اساس العبادة هو ان الحياة الحقيقية فى الأخرة ..وان الدنيا هى دار اختبار ودار اغيار ..اما الأخرة فهى دار نعيم مقيم ..ففى الدنيا اما ان نفارق النعمة واما ان تفارقك ..تفارقها بالموت ..او تفارقك بان تزول عنك .اما الحياة التى لا تفارقك فيها النعمة ولا تفارقك فهى الأخرة ..لذلك فان كل عمل المؤمن فى الدنيا مقصود به الجزاء فى الخرة .
ومنهج الله فى الأرض يقودك الى الجنة ان طبقته ، والى النار والعياز بالله ان خالفته ..اذن فقضية الإيمان كلها مبنية على الإيمان بالبعث .وسورة البقرة فيها تجربة حدثت مع بنى اسرائيل ..ورأوا البعث وهم مازالوا فى الدنيا حين بعث الله سبحانه وتعالى قتيلا لينطق باسم قاتله.. ثم مات بعد ذلك.
والقصة ان رجلا من بنى اسرائيل ..كان ثريا يملك المال الكثير ولم يكن له ولد يرثه ..فتأمر عليه ابن اخيه فقتله ليلا ثم اخذ الجثة والقاها فى مكان قريب من احدى القرىالمجاورة ليتهم اهل هذه القرية بقتله .. وصحا اهل القرية ليجدوا جثة القتيل على باب قريتهم.. واتهموا فيه وقالوا لم نقتله .وقال اقارب القتيل بل انتم الذين قتلتموه .واحتدم الخلاف وذهبوا الى موسى عليه السلام .وقالوا ان الخلاف قد احتدم ..فاسال لنا ربك ان يكشف لنا عن القاتل ..وجاءت القصة فى سورة البقرة
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ(68)قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69)قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)-قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)
سورة البقرة
وهكذا نرى ان الله سبحانه وتعالى أمر بنى اسرائيل ان يذبحوا البقرة ، ولو انهم ذبحوا اية بقرة واخذوا بعضا منها ليضربوا به القتيل .لعادت الحياة اليه ونطق باسم قاتله ..ولكنهم بدلا من ان يستقبلوا اوامر الله سبحانه وتعالى بالتنفيذ ..استقبلوها اولا بعدم التصديق .. و :"قالوا أتتخذنا هزوا " ولوا يشددون على انفسهم بطلب اوصاف البقرة حتى جاء الإيضاح من الحق تبارك وتعالى بعمر البقرة ولونها وكل ما يخصها.
وكان لهذا حكمة عند الله سبحانه وتعالى لخدمة قضية ايمانية اخرى ..وقد كان هناك رجل صالح من بنى اسرائيل .. يتحرى الدقة فى كسبه ولا يرضى الا بالحلال ..وكان رجلا يبتغى وجه الله فلا كل ما يفعل ..وعندما حضرته الوفاة كانت ثروته هى بقرة صغيرة وكان ابنه طفلا ..واحتار الرجل من يوصى على هذه البقرة التى هى كل ثروته التى تركها لإبنه وزوجته ..واتجه الى الله سبحانه وتعالى وقال اللهم انى استودعك هذه البقرة فاحفها لأبنى حتى يكبر .لأنه لم يجد امينا على ابنه الا يد الله سبحانه وتعالى . ثم قال لزوجته انى لم اجد يدا آمن من يد ربى استودعته البقرة الصغيرة .. وسألته زوجته اين البقرة قال اطلقتها فى المراعى .. ثم اسلم الروح..
وكبر الإبن فحكت له امه ما حدث .فقال الإبن واين اجد البقرة لأستردها
قالت الم لقد استودع ابوك البقرة عند خالق الكون .فقل انى اتوكل على الله وابحث عنها .فقال الإبن اللهم رب ابراهيم ويعقوب رد على ما استودعك ابى.
ثم انطلق الى الحقل فوجد البقرة .. وكانت هذه هى البقرة التى ذكرت اوصافها لبنى اسرائيل ..فذهبوا ليشتروها فقال الإبن لن ابيعها الا بملىء جلدها ذهبا فدفعوا له..
وهكذا نجد ان صلاح الأب يجعل الله حفيا على اولاده يرعاهم وييسر لهم امورهم . وقد اوضح الله تعالى هذه الحقيقة فى سورة الكهف ..عندما جاء العبد الصالح وبنى الجدار ليحف كنز يتيمين كان ابوهما صالحا ..واقرأ قول الحق سبحانه :
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً(82)
سورة الكهف
وهكذا كانت الحكمة الإلهية ان الرجل الصالح الذى استودع كل ما كان يملك عند الله .. بارك الله له فيه ووجد ابنه عندما يبلغ سن الشباب ثروة كبيرة .
وعندما ذبحوا البقرة . ضربوا ببعضها القتيل كما امرهم الله سبحانه وتعالى فاذا به يُبعث وينطق اسم قاتله ثم يموت مرة اخرى ..وهكذا سميت السورة باسم سورة البقرة اثباتا لقضية اساسية فى الدين وهى قضية الإيمان بالبعث
واما بداية القرآن بسورة مدنية بدلا من سورة مكية ..فنقول انه يجب ان نفهم اولا ما هو مكى وما هو مدنى .فمكة والمدينة مقدسان..الأول شهد بداية النبوة وبداية نزول القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم .. والثانى كان مهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعندما نقول مكى ومدنى فى القرآن الكريم .لابد ان نلاح عدة اشياء ..اولا الحدث الذى نزلت من اجله الأية .. وثاينا مكان الحدث وثالثا الزمان الذى نزلت فيه ،فكل فعل له زمن يقع فيه ومكان يحدث فيه وفاعل ومن يقع عليه الفعل .. وسبب للحدوث وقدرة على الفعل..
وبالنسبة لنزول القرآن الكريم ..الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ..والذى نزل عليه القرآن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم..والمكان هو اما مكة واما المدينة .. فنزول القرآن الكريم له زمان ومكان وسبب نزول ، والقرىن هو هداية البشر الى منهج الله ..والله سبحانه وتعالى وضع فى القرآن الكريم دستورا سماويا لكل رسالات الله للبشر .. فبنزول القرىن الكريم اكتملت الرسالات السماوية وجاء الدين الخاتم الذى يل دستورا للدنيا حتى يوم القيامة .. فجاء القرآن الكريم بقصة خلق السموات والأرض وقصة خلق الإنسان ..وجاء بقصص الرسل والنبياء الذين سبقوا نزول القرىن الكريم وصحح مازيف منها وعدل ما حرف منه لتأتى صادقة فيما ابلغ به الرسل عن الله . وتاتى ناسخة لكل ما عبثت به ايدى البشر فى الرسالات السابقة على نزول القرآن .. وتأتى مصححة لكل كلام بشرى اضيف الى منهج الله ونسب اليه زورا وبهتانا .. وتأتى بما كتمه اهل الديانات القديمة واحبار اليهود ورهبان النصارى عن الناس..
انه يفضح كل تحريف او كتم او اخفاء او تزييف او اضافة بشرية لدين الله فى الرسالات السابقة .ويزيد عليه من منهج الله ليصبح القرآن الكريم المنهج الكامل المتكامل لعبادة الله فى الأرض .. ويتضمن منهج السماء منذ عهد آدم الى قيام الساعة.
ولقد اختلف العلماء حول بعض الأيات وهل هى مكية او مدنية
فالذين اخذوا بعنصر الزمان مقياسا قالوا ان كل سورة من القرآن الكريم نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة تعتبر مدنية .. حتى ولو نزلت فى مكة .. والذين اتخذوا مقياس المكان قالوا ان كل سورة نزلت فى مكة فهى مكية ، وكل سورة نزلت فى المدينة فهى مدنية ، وذلك بصرف النر عن انها نزلت قبل الهجرة او بعدها .. ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه سور فى مكة بعد الهجرة .
ونحن نقول انه لا خلاف بين علماء المسلمين كما حاول البعض ان يصوره . بل ان كل فريق اخذ الموضوع من زاوية معينة .. بعضهم نر الى زاوية المكان ، وبعضهم نر الى زاوية الزمان . ولم يختلف العلماء فى سور القرآن الكريم ذاته او اياته.
عندما ننر الى سورة البقرة نجد انها من اوائل السور التى نزلت بالمدينة.. ففيها الطابع المدنى والطابع المكى .. الطابع المكى فى سور القرآن الكريم هو التركيز على العقيدة ..ذلك ان الأيات والسور المكية نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه الوثنيين عبدة الأصنام ، والكفار الذين لا يؤمنون بدين وعددا من اهل الكتاب الذين ضعفت صلتهم بالسماء لأنهم نسوا ما قاله رسلهم فحرفوه .. وكان لابد للقرآن ان يواجه هؤلاء جميعا ويبين لهم انهم على باطل وانهم يعبدون الهة لا تنفع ولا تضر
بل الهة مصنوعة من ادنى اجناس الأرض وهى الحجارة ..بينما الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان وجعله خليفة فى هذا الكون .
وكان لابد للقرآن ان يخبرهم ان هناك بعثا بعد الموت .. اون هناك جنة ونارا وان الحياة الحقيقية ليست الدنيا ولكنها الأخرة ..وكان لابد أن يحذرهم من عذاب الله . ومن يوم سيلقونه فيه ولا يستطيع احد منهم هربا من ذلك اليوم العظيم..وكان لابد ان يلفتهم الى آيات الله فى الكون الدالة على انه الموجد والخالق..وأن يواجه ما ياتى به احبار اليهود من أسئلة ظاهرها الإستفهام، وحقيقتها محاولة الطعن فى الإسلام.
وكانوا يظنون أنه ربما ياتى محمد عليه الصلاة والسلام بشىء من عنده فيخطىء..
فجاء القرآن ليساوى بين البشرية كلها ..فلا فضل لغنى لماله ولا قلة لفقير فى الأجر..بل الناس امام الله سواسية كأسنان المشط
كان هذا هو اساس الدعوة فى مكة ..ايمان بانه لا اله الا الله وان محمدا رسول الله . وتثبيت للمؤمنين فى الفترة التى كانوا فيها قلة وكانوا ضعفاء وكانوا أذلة.
وتثبيت الإيمان كان يقتضى تذكيرهم دائما بان الله معهم..وان ماتوا شهداء دخلوا الجنة بلا حساب .وان ماتوا على دين الإسلام دخلوا الجنة .ومن يبقى منهم على كفره عُذب فى النار ، وان كل مشقة فى سبيل الله لها اجر فى الأخرة حتى يتحملوا المشقة والإيذاء وهم صابرون.
واذا انتقلنا بعد ذلك الى مجتمع المدينة..فهناك صورة اخرى ووجه فيها الأسلام بالكفار وعبدة الوثان ومزورى التوراة من اليهود وعدو جديد هم المنافقون..وقد كانت هناك عداوة جاهلة فى مكة ، اما فى المدينة فقد ووجده الإسلام بعداوة عالمة .. وهم المنافقون..فلم يكن هناك نفاق فى مكة ، فالضعيف والمضهد لا ينافق ..فمنذا الذى كان يدعى فى مكة انه مؤمن وهو كافر..ليكون عرضة للإيذاء والإضطهاد ، ولكن فى المدينة عندما قوى افسلام وكانت له دولة ظهر فى المجتمع النفاق .واقرأ قول الحق سبحانه وعالى :
"
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(101)
سورة التوبة
وهكذا واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة عداوة من لون جديد.. ليخوض صراعا مع المنافقين واليهود .. وبجانب التوحيد والرد على المنافقين واليهود كان هناك المجتمع الإسلامى .. وكانت هناك مهمة تربية هذا المجتمع لكى ينهض بالدعوة ، وكانت هناك دولة وكانت هناك غزوات ، وكان هناك احكام بافعل ولا تفعل.
كل هذا لم يكن موجودا فى مكة ، فقد اقتضى نزول القرآن الكريم فى مكة ان تكون آياته فى معظمها عن العقيدة وعن الجنة والنار وعن الأجر الذى ينتظر المؤمنين فى الأخرة وعن العذاب الذى ينتظر الكفار.
وكانت الآيات فى المدينة عن الأحكام والمجتمع الإسلامى والمعاملات وكيفية اتقاء المنافقين . وان كانت الآيات فى المدينة لم تهمل العقيدة بل اكدتها .. وعندما جاء جبريل عليه السلام ليرتب المصحف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الترتيب الذى نعرفه الأن..كان اسلام قد انتشر واعتنقه كثيرون.لذلك كانت المهمة الولى ان يعرف هؤلاء المسلمون احكام دينهم.فالعقيدة موجودة وبقى ان نعمل ونطبق المنهج فى افعل ولا تفعل.
ولقد جاءت سورة البقربة متضمنة التعريف بقوة الإسلام..وبحكمة القرىن وبعلم الله سبحانه وتعالى الى رسوله صلى الله عليه وسلم، واشتملت على قصة خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام .وقصة ابراهيم فى بحثه عن الإيمان وقصة بناء الكعبة الشريفة .. وركزت على اليهود باعتبارهم اشد الناس عداوة للأسلام..واقرأ قول الحق تبارك وتعالى
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ
من الآية (82) المائدة
جاءت سورة البقرة ببعض التكاليف الإيمانية .. فتحدثت عن الصوم والحج والخمر والربا واكل اموال الناس والزواج والطلاق والرضاع ..كما حددت صور التعامل بالمال فى المجتمع الإسلامى .. وما كان الإسلام ليتعرض لهذه الأحكام فى مكة ..لأنه لم يكن هناك المجتمع الإسلامى الذى يتطلبها.