يقول الحق سبحانه: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً(12)

1-    محونا: طمسنا. وقال علي بن أبي طالب وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر, ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. [ تفسير القرطبي 9/2956]

 

الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلا ونهارا ظرفا للأحداث وجعل لكل منهما مهمة لا تتأتى مع الأخر, فهما متقابلان لا متضادان, فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل؛ لأن لكل منهما مهمة, والتقابل يجعلهما متكاملين.

ولذلك أراد الله تعالى أن يُنظِّر بالليل والنهار في جنس الإنسان من الذكور والأنوثة, فهما أيضاً متكاملان لا متضادان, حتى لا تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة. كما نرى البعض من الجنسين يتعصب لجنسه تعصُباً أعمى خالياً من فهم طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى.

فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة , أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به, وإياك أن تخلط بين هذه وهذه.

تأمل قول الحق سبحانه: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)  [ الليل]

فلا تجعل الليل ضِداً للنهار, ولا النهار ضِداً لليل, وكذلك لا تجعل الذكورة ضِداً للأنوثة, ولا الأنوثة ضِداً للذكورة.

قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ (12)[ الإسراء]

جعلنا: بمعنى خلقنا, والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة, ومعرفتنا هذه أوضح من أن نعرِّفهما , فنقول مثلاً: الليل مَغِيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية, والنهار هو شروق للشمس على نصف الكرة الأرضية.

إذن : قد يكون الشيء أوضح من تعريفه.

والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار, وجهل لكل منهما حكمة مهمة, حينما يتحدّث عنهما, يقول تعالى: (وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) [ الضحى]                      فبدأ بالضحى

ويقول : (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)  [ الليل] فبدأ بالليل. ومرة يتحدث عن اللازم لهما . فيقول : (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.. (1)     [ الأنعام]

لأن الحكمة من الليل تكمن في ظلمته, والحكمة من النهار تكمن في نوره , فالظلمة سكن واستقرار وراحة, في الليل تهدأ الأعصاب من الأشعة والضوء , ويأخذ البدن راحته, لذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( أطفئوا المصابيح إذا رقدتم) أخرج البخارى في صحيحه (3280) من حديث جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استجنح الليل- أ, كان جنح الليل- فكفوا صبيانكم, فإن السياطين تنتشر حينئذ, فإذا ذهب ساهة من العشاء فخلوهم, وأغلق بابك, واذكر اسم الله, واطفيء مصباحك. واذكر اسم الله, وأوك سقاءك واذكر اسم الله, وخمِّر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئاً).

في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة- التي نراها الآن- مظهر حضاري, وهم غافلون عن الحكمة من الليل, وهي ظلمته.

والنور للحركة والعمل والسعي, فمن ارتاح في الليل يُصبح نشيطاً للعمل, ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة, وارتاحت أعضاؤه, ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل.

لذلك قال الحق سبحانه: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.. (73) [ القصص]

لماذا؟ (لِتَسْكُنُوا فِيه..(ِ 73) [ القصص ] أي : في الليل.

(وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ (73) [ القصص] أي : في النهار.

إذن: لليل مهمة, وللنهار مهمة, وإياك أن تخلط هذه بهذه, وإذا ما وجد عمل لا يُؤدَّى إلا بالليل كالحراسة مثلاً. نجد الحق سبحانه يفتح لنا باباً لنخرج من هذه القاعدة العامة.

فيقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ..(23)     [ الروم]

فجعل النهار أيضاً محلاَ للنوم, فأعطانا فُسحة رخصة , ولكن في أضيق نطاق. فمن لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل , وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا.

فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة, وتمرد على هذا النظام الإلهي, فإن الحق سبحانه يردعه بما يكبح جماحه, ويحميه من إسرافه على نفسه, وهذا من لطفه تعالى ورحمته بخلقه.

هذا الردع إما ردع ذاتي اختياري, وإما ردع قهري, والردع الذاتي يحدد للإنسان حينما يسعى في حركة الحياة ويعمل, فيحتاج إلى طاقة, وهذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه, فإن زادت الحركة عن طاقة الإنسان يلهث وتتلاحق أنفاسه, وتبدو عليه أمارات التعب والإرهاق, لأن الدم المتوارد إلى رئته لا يكفي هذه الحركة.

وهذا نلاحظه مثلاً في صعود الُلم حيث حركة الصعود متناقضة لجاذبية الأرض لك, فتحتاج إلى قوة أكثر, وإلى دم أكثر وتتنفس فوق التنفس العادي.

فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراح رادعاً ذاتياً في الإنسان, إذا ما تجاوز حَدّ الطاقة التي جعلها الله فيه.

أما الردع القهري فهو النوم, يلقيه الله على الإنسان إذا ما كابر وغالط نفسه, وظن أنه قادر على مزيد من العمل دون راحة, فهنا يأتي دور الرادع القسري, فينام رغماً عنه ولا يستطيع المقاومة, كأن الطبيعة التي خلقها الله فيه تقول له: ارحم نفسك, فإنك لم تَعُدْ صالحاً للعمل.

فالحق تبارك وتعالى لا يُسلِم الإنسان لاختياره, بل يُلقِى عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه من حماقته وإسرافه على نفسه.

لذلك نرى الواحد منّا إذا ما تعرّض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلاً, لا بُد له بعد أن ينتهي من مهمته هذه أن ينام مثل هذه المدة التي سهرها؛ ليأخذ الجسم حَقّه من الراحة التي حُرم منها.

وقوله تعالى : ( آيَتَيْنِ.. (12) [ الإسراء]

قلنا: إن الآية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل, ويُظهر قدرة الخالق وعظمته سبحانه, والآية تُطلق على ثلاثة أشياء.

1-  تُطلق على الآيات الكونية التي خلقها الله في كونه وأبدعها, وهذه الآيات الكونية يلتقي بها المؤمن والكافر, منها كما قال تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ..(37) [ فصلت]

(وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ(32) [ الشورى]

هذه الآيات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.

2- وتُطلق الآيات على المعجزات التي تصاحب الرسل, وتكون دليلاً على صدقهم, فكل رسول يُبعث ليحمل رسالة الخالق لبداية الخَلق, لا بُدَّ أن يأتي بدليل على صِدقه وأمارة على أنه رسول.

وهذه هي المعجزة, وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا: لتكون أ,ضح في إعجازهم وأدّعى إلى تصديقهم.

قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ (59)                   [ الإسراء]

3- وتُطلق الآيات على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام.

إذن: هذه أنواع ثلاثة, في كل منها عجائب تدعوك للتأمل, ففي الأولى : هندسة الكون ونظامه العجيب البديع الدقيق, وفي الثانية: آيات الإعجاز, حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم, ومع ذلك  لم يستطيعوا الإتيان بمثله, وفي الثالثة: آيات القرآن وحاملة الأحكام؛ لأنها أقوم نظام لحركة الحياة.

فقول الحق سبحانه: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ..( 12) [ الإسراء]

أي كونيتين, ولا مانع أن تفسر الآيات الكونية آيات القرآن .

وقوله : ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ.. (12 )  [ الإسراء]

أي: بعد أ، كان الضوء غابت الشمس فَحَلّ الظلام, أو محوناها: أي جعلناهما ههكذا, كما قلنا: سبحان من بيّض اللبن. أي خلقه هكذا, فيكون المراد : خلق الليل هكذا مظلماً.

( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.. (12) [ الإسراء]

 

أي: خلقنا النهار مضيئاً, ومعنى مبصرة أو مضيئة أي: نرى بها الأشياء؛ لأن الأشياء لا تُرى في الظلام, فإذا حَلَّ الضياء والنور رأيناها, وعلى هذا كان ينبغي أن يقول: وجعلنا آية النهار مُبصَراً فيها, وليست مبصرة.

وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون:

( فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً (13)   [ النمل]

فنسب البصر إلى الآيات, كما نسب البصر هذا إلى النهار.

وهذه مسألة حيّرت الباحثين في فلسفة الكون وظواهره, فكانوا يظنون أنك ترى الأشياء إذا انتقل الشعاع من عينك إلى المرئى فتراه, إلى أن جاء العالم الإسلامي " ابن الهيثم" الذي نَوَّر الله بصيرته, وهداه إلى سِر رؤية الأشياء, فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ, فلو أن الشعاع ينتقل من العين إلى المرئى لأمكنك أن ترى الأشياء في الظُلمة إذا كنت في الضوء.

إذن : الشعاع لا يأتي من العين, بل من الشيء المرئي؛ ولذلك ترى الأشياء إن كانت في الضوء, ولا نراها إن كانت في الظلام.

وعليه يكون الشيء المرئي هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك, ويساعدك على رؤيته, ولذلك تقول : هذا شيء يُلفت النظر أي : يرسل إليك مَا يجعلك تلتفت إليه.

إذن : التعبير القرآني: ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.. (12) [ الإسراء]

على مستوى عال من الدقة والإعجاز, وصدق الله تعالى حين قال: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..(53) [ فصلت]

وقوله تعالى: ( لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ  .. (12) [ الإسراء]

وهذه هي العلة الأولى لآية الليل والنهار.

أي: أن السعي وطلب الرزق لا يكون إلا في النهار؛ لذلك أتى طلب فضل الله ورزقه بعد آية النهار, ومعلوم أن الإنسان لا تكون له حركة نشاطية وإقبال على السعي والعمل إلا إذا كان مرتاحاً ولا تتوفر له الراحة إلا بنوم الليل.

وبهذا نجد في الآية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ (73)  [ القصص]

فالترتيب في الآية يقتضي أن يقتضي أن نقول: (لِتَسْكُنُوا فِيهِ ..(73) [ القصص]  أي : في الليل. (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ (73)  [ القصص]  أي: في النهار, وعمل النهار لا يتم إلا براحة الليل, فهما –إذن – متكاملان.

والحق سبحانه وتعالى جعل النهار محلاً للحركة وابتغاء فضل الله ؛ لأن الحركة أ/ر مادي وتفاعل مادي بين الإنسان ومادة الكون كم حوله, كالفلاح وتفاعله مع أرضه, والعامل وتفاعله مع آلته.

هذا التفاعل المادي لا يتم إلا في ضوء؛ لأن الظلمة تغطي الأشياء وتعميها, وهذا يتناسب مع الليل حيث ينام الناس, أما السعي والحركة فلا بد من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل لله, ففي الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك, أو  بما هو أضعف منك فتحطمه .

إذن : فأول خطوات ابتغاء فضل الله أ، يتبين الإنسان المادة التي يتفاعل معها, لذلك فالحق سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء, فقال تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.. (1)     [ الأنعام]

لأن النور محل للحركة, ولا يمكن للإنسان أ، يعمل إلا بعد راحة, والراحة لا تكون إلا في ظُلمة الليل.

وقوله تعالى: ( وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.. (12) [ الإسراء]

وهذه هي العِلة الأخرى لليل والنهار, حيث بمرورها يتم حساب السنين.

وكلمة " عدد" تقتضي شيئاً له وحدات, ونريد أ، نعرف كمية هذه الوحدات؛ لأن الشيء إن لم تكن له كميات متكررة فهو واحد.

وقوله : ( السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.. (12) [ الإسراء]

لأنها من لوازم حركتنا في الحياة, فعن طريق حساب الأيام نستطيع تحديد وقت الزراعات المختلفة, أ, وقت سقوط المطر, أو هبوب الرياح. وفي العبادات نحدد بها أيام الحج, وشهر الصوم, ووقت الصلاة, ويوم الجمعة, وهذه وغيرها من لوازم حياتنا لا نعرفها إلا بمرور الليل والنهار.

ولو تأملت عظمة الخالق سبحانه لوجدت القمر في الليل, والشمس في النهار, ولكل منهما مهمة في حساب الأيام والشهور والسنين, فالشمس لا تعرف بها إلا اليوم الذي أنت فيه, حيث يبدأ اليوم بشروقها وينتهي بغروبها, أما بالقمر فنستطيع حساب الأيام والشهور؛ لأن الخالق سبحانه جعل فيه علامة ذاتية يتم الحساب على أساسها, فهو في أ الشهر هلال, ثم يكبر فيصير إلى تربيع أول, ثم إلى تربيع ثان, ثم لإلى بدر, ثم يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى محاق آخر الشهر.

إذن : نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر, ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون النهار, فتثبت رؤية رمضان ليلاً أولاً, ثم يثبت نهاراً, فتقول : الليلة أول رمضان, لذلك قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ"1" مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ..(5) [ يونس]

1- أي : قدرنا له في سيره أن ينزل في أماكن محددة, تجعله مرة هلالاً ومرة بدراً, ومرة كالعرجون القديم في إشرافه على المحاق آخر الشهر. [ القاموس القويم 2/260]

فقوله : ( قدره..5) [يونس] أي : القمر, لأنه به تتبين أوائل الشهور, وهو أدق نظام حسابي يُعتمد عليه حتى الآن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم.

و(مَنَازِلَ.. (5)   [يونس]   .هي البروج الأثنى عشر للقمر التي أقسم الله بها في قوله تعالى: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ(1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ(2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)  

[ البروج]

لأن حياة الخلق لا تقوم إلا بحساب الزمن فقد جعل الخالق سبحانه في كونه ضوابط تضبط لنا الزمن, وهذه الضوابط لا تصلح لضبط الوقت إلا إذا كانت هي في نفسها منضبطة, فمثلاً أنت لا تستطيع أ، تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة ( تُقدِّم وتُؤخِر).

لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في كَوْنه:  (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)      [ الرحمن]

أي : بحساب دقيق لا يختل وطالما أن الخالق سبحانه خلق خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم.

وقوله تعالى: ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً(12) [ الإسراء]

معنى التفصيل  أن تجعل بَيناَ بين شيئين, وتقول: فصلْتُ شيئاً عن شيء فالحق سبحانه فصَّل لنا كل ما يحتاج إلى تفصيل, حتى لا يلتبس علينا الأمر في كل نواحي الحياة.

ومثال ذلك في الوضوء مثلاً يقول سبحانه: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)  [ المائدة]

فأطلق غسل الوجه, لأنه لا يختلف عليه أحد, وحدد الأيدي إلى المرافق, لأن الأيدي يُختلف في تحديدها, فاليد قد تكون إلى الرسغ, أو إلى المرفق, أو إلى الكتف, لذلك حددها الله تعالى, لأنه سبحانه يريدها على شكل مخصوص.

وكذلك في قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ..(6)[ المائدة]

فالرأس يناسبها المسح لا الغسل, والرِّجْلاَن كاليد لا بُدَّ أن تُحدد. فإذا لم يوجد الماء أ, تعذر استعماله شرع لنا سبحانه التيمم, فقال تعالى: ( فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً"1" طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ (43)  [ النساء]

1-    الصعيد: هو كل تراب طيب. وقال الشافعي: لا يقع اسم الصعيد إلا على تراب ذي غبار وقال أبو إسحاق: الصعيد وجه الأرض وعلى الإنسان أن يضرب بيده وجه الأرض , ولا يبالي أكان في الموضع تراب أو لم يكن, لأن الصعيد ليس هو التراب, إنما هو وجه الأرض, ترابا كان أو غيره. [ لسان العرب- مادة: صعد].

 

والتيمم يقوم مقام الوضوء, من حيث هو استعداد للصلاة ولقاء الحق سبحانه وتعالى, وقد يظن أن الحكمة من الوضوء الطهارة والنظافة, وكذلك التيمم ؛ لذلك يقترح بعضهم أن نُنظِّف أنفسنا بالكولونيا مثلا.

نقول: ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة, بل المراد الاستعداد وإظهار الطاعة والانصياع لشرع الله تعالى , و إلا كيف تتم الطهارة والنظافة بالتراب؟

هذا الاستعداد هو الذي جعل سيدنا على زين العابدين  رضي الله عنه يَصفرّ وجهه عند الوضوء, وعندما سُئل عن ذلك قال: أتعلمون على مَنْ أنا مُقبِل الآن؟

فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حساباً وأن يستعد للصلاة بما شرعه له ربه سبحانه وتعالى.