قال تعالى: (
إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً(9)
فمن كان يريد الأسوة الطيبة في عبودية الرسول لربة, هذه
العبودية التي جعلته يسرى به إلى بيت المقدس, ثم يصعد به إلى السماء, ومن كان يريد
أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم ذريته من أجله, فعليه أن يسير على دربهم,
وأن يقتدي بهم في عبوديتهم لله تعالى, وليحذر أن يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في
الأرض مرتين.
والذي
يرسم لنا الطريق ويُوضِّح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم:
(إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. (9)
[ الإسراء]
قول الحق تبارك وتعالى:( (إِنَّ
هَـذَا
الْقُرْآنَ
.. (9)
[الإسراء]
هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل, ليقول : إن هذا القرآن؟
نقول: لم يكن القرآن كله قد نزل, ولكن كل آية في القرآن
تُسمى قرآناً, كما قال تعالى: (
فَإِذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) [ القيامة]
فليس المراد القرآن كله, بل الآية من القرآن قرآن, ثم
لما اكتمل نزول القرآن , واكتملت كل المسائل التي تضمن
لنا استقامة الحياة, قال تعالى:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا..(2) [ المائدة]
فإن
استشرف مُستشرف أن يستزيد على كتاب الله, أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج الله
مُنزّه عن النقص, وفي غنى عن زيادتك, وما عليك إلا أن تبحث في كتاب الله, وسوف تجد
فيه ما تصبو إليه من الخير.
قوله: (
يِهْدِي.. (9) [الإسراء]
الهداية هي الطريق الموصّل للغاية من
أقرب وَجه, وبأقل تكلفة, وهو الطريق المستقيم الذي لا التواء فيه, وقلنا: إن الحق
سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق, فمكن اهتدى زاده هُدى ,
كما قال سبحانه:
(وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ(17)
[
محمد]
ومعنى : (
أَقْوَمُ.. (9)
[ الإسراء]
أي: أكثر استقامة وسلاما. وهذه
الصيغة تُسمى أفعل التفضيل, إذن : فعندنا ( أقوم) وعندنا
أقل منه منزلة ( قــَيّم ) كأن نقول: عالم وأعلم.
فقوله سبحانه: ((إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. (9)
[ الإسراء]
يدل على وجود ( القــيَم ) في نُظم
الناس وقوانينهم الوضعية, فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين
وشرائع حينما تعضُّهم المظالم ويشقُّون بها, فيُقننون تقنينات تمنع هذا الظلم.
ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم
منهج من السماء, فما وضعوه وإن كان قيّما فما وضعه الله أقوم, وأنت لا تضع القيم
إلا بعد أن تُعضُّ بشئ معوج غير قيّم, و إلا فلماذا يلفتُك للقيم؟
أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية, ويمنع المرض من أساسه, فهناك فرق بين
الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض, فأصحاب القوانين الوضعية يُعدّلون نظمهم
لعلاج الأمراض التي يَشقَون بها.
أما الإسلام فيضع لنا الوقاية, فإن حدثت غفلة من المسلمين
وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول
لهم عودوا المنهج:
(إِنَّ
هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. (9) [الإسراء]
ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم
نروى ما حدث معنا في مدينة " سان فرانسيسكو" فقد سألنا أحد المستشرقين
عن قول الحق تبارك وتعالى:
( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ
نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32)
[التوبة]
وفي آية أخرى
يقول
: (هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)
[التوبة]
فكيف يقول القرآن
: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..(33) [ التوبة]
في حين أن الإسلام محصور, وتظهر عليه الديانات الأخرى؟
فقلت له: لو تأملت الآية لوجدت فيها
الرد على سؤالك . فالحق سبحانه يقول :
(
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) [ التوبة]
إذن : فالكافرون والمشركون موجودون؛ فالظهور هنا ليس ظهور اتّباع , ولم يقُل القرآن: إن الناس جميعا سيؤمنون.
ومعنى الظهور هنا ظهور حُجّة وظهور
حاجة, ظهور نظم وقوانين, ستضطرهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى التخلّي عن قوانينهم
والأخذ بقوانين الإسلام؛ لأنهم وجدوا فيها ضَالّتهم.
فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً
ما هاجموه وانتقدوه, ورأوا قيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية. ولكن بمرور الزمن
تكشفت لهم حقائق مؤلمة , وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود
هذا الحل في قوانينهم. وهكذا ألجأتهم مشاكل الحياة الزوجية لأن يُقنِّنوا للطلاق.
ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حُباً
في الإسلام أو اقتناعاً به, بل لأن لديهم مشاكل لا حلّ لها إلا بالطلاق, وهنا هو
الظهور المراد في الآيتين الكريمتين, وهو ظهور بشهادتكم أنتم؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام, أو قريباً منها.
ومن بين هذه القضايا أيضاً قضية
تحريم الربا في الإسلام, فعارضوه وأنكروا هذا التحريم.
إلى أن جاء "كِنز" وهو زعيم اقتصادي عندهم, يقول لهم: انتبهوا, لأن
المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى صفر.
سبحان الله, ما أعجب لَجَج هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام. وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر؟ إنهم يعودون لمنهج الله
تعالى رَغما عنهم , ومع ذلك لا يعترفون به.
ولا يخفى ما في التعامل الربوي من سلبيات , وهل رأينا دولة
اقترضت من أخرى,واستطاعت على مَرّ الزمن أن تُسدد حتى أقساط الفائدة؟ ثم نراهم
يغالطوننا يقولون: ألمانيا واليابان أخذت قروضاً بعد الحرب العالمية الثانية, ومع
ذلك تقدمت ونهضت.
نقول لهم: كفاكم خداعاً, فألمانيا
واليابان لم تأخذ قروضاً وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها, تسمى معونة "
مارشال".
وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم
إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة, فلما عَضّـتهم
قننوا لها.
فظهور دين الله هنا يعني ظهور نُظم
وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها, وليس المقصود به ظهور اتّباع.
إذن : فمنهج الله أقوم , وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأهدى,
وفى القرآن ما يُوضح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى الله عليه
وسلم.
وهذا في قصة مولاه, زيد بن حارثة[1],
وزيد لم يكن عبداً, إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه, وانتهى به المطاف إلى
السيدة خديجة- رضي الله عنها- التي وهبته بدورها لخدمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان زيد في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في
مكة فأتوا ليأخذوه. فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن خَـيًّـره بين
البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله, فاختار زيد البقاء في خدمة رسول الله .وآثره على أهله. فقال صلى الله
عليه وسلم: " فما كنت لأختار على مَنِ اختارني شيئاً". أورده ابن حجر العسقلاني في كتاب " الإصابة في تمييز الصحابة", (
ترجمة رقم 2884)
في ترجمة" زيد بن حارثة الكلبي).
وفي هذه القصة دليل على أن الرقّ كان مباحاً في هذا العصر, وكان الرقّ
حضانةُ حنان ورحمة, يعيش فيها العبد كما يعيش سيده يأكل من طعامه ويشرب من شرابه
ويكسوه إذا اكتسى ولا يكلفه ما لا يطيق. وإن كلّفه أعانه, فكانت يده بيده ." أخرج البخارى في صحيحه (6050) ومسلم في صحيحه
(1661) من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
" هم إخوانكم , جعلهم الله تحت أيديكم, فأطعموهم
مما تأكلون , وألبسوهم مما تلبسون. ولا تكلفوهم ما يغلبهم, فإن
كلفتموهم فأعينوهم"
وهكذا كانت العلاقة بين محمد صلى
الله عليه وسلم وبين زيد: لذلك آثره على أهله وأحب البقاء في خدمته, فرأى رسول الله أن
يُكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله, فقال:" لا تقولوا زيد بن
حارثة, وقولوا زيد بن محمد".
ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ( اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه" أورده ابن حجر في الإصابة ترجمة
رقم (2884) فدعي زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى :
( ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ
اللَّهِ.. (5) [ الأحزاب]. ثم إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم زوّج زيداً ابنة عمته زينب بنت جحش, ثم نزل قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ
اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ
أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولاً(37)
[الأحزاب]
وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت , فلما أراد الحق سبحانه أن يُحرّم التبني وأن يُحرّم
نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال:
(ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ..ً(5) [ الأحزاب]
والشاهد هنا: (هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ..(5) [ الأحزاب]
فكأن الحكم الذي أنهى التبني , وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط
والأعدل , إذن : حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن
جَوراً, بل كان قِسطاً وعدلاً, لكنه قسط بشرى يَفضله ما كان من عند الحق سبحانه
وتعالى.
وهكذا عاد زيد إلى نسبه الأصلي,
وأصبح الناس يقولون" زيد ابن حارثة, فحزن لذلك زيد, لأنه حُرِم من شرف
الانتساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعوّضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم يَنله
صحابي غيره, هذا الوسام أن ذُكِر اسمه في القرآن الكريم ,
وجعل الناس يتلونه, ويتعبدون به في قوله تعالى:
(فَلَمَّا
قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ..(37)
[ الأحزاب]
إذن : عمل الرسول قسط , وعمل الله أقسط.
قوله تعالى:
(
يِهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ..(9)
) [الإسراء]
لأن المتتبع للمنهج القرآني يحده
يُقدّم لنا الأقوم والأعدل
والأوسط في كل شيء. في العقائد وفي الأحكام وفي القصص.
ففي العقائد مثلاً, جاء الإسلام
ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين مَنْ ينكر وجود إله في الكون . وبين مَن يقول يتعدد الآلهة, فجاء الإسلام وَسَطاً بين
الطرفين, جاء بالأقوم في هذه المسألة, جاء ليقول بإله
واحد لا شريك له.
فإذا ما تحدث عن صفات هذا الإله
سبحانه اختار أيضاً ما هو أقوم وأوسط, فللحق سبحانه صفات تشبه صفات البشر, فله
يَدّ وسمع وبصر, لكن ليست يده كيدنا , وليس سمعه كسمعنا,
وليس بصره كبصرنا:(
لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11) [ الشورى]
وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع
فيه المشبِّهة الذين شبّهوا صفات الله بصفات البشر, وخرجنا مما وقع فيه المعطّلة
الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأولوها على
غير حقيقتها.
وكذلك في الخلق الاجتماعي العام,
يلفتنا المنهج القرآني في قوله
تعالى: (
وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105) [ يوسف]
يلفتنا إلى ما في الكون من عجائب
نغفل عنها , ونُعرض عن تدبُّرها والانتفاع بها, ولو
نظرنا إلى هذه الآيات بعين المتأمل لوجدنا فيها منافع شتى منها؛ أنها تُذّكرنا
بعظمة الخالق سبحانه, ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب الذي يُثري حياتنا, ويوفر لنا
ترف الحياة ومتعتها.
فالحق سبحانه أعطانا مُقومات الحياة,
وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء, فمن أراد الكماليات فعليه أن يُعمِل عقله فيما
أعطاه الله ليصل إلى ما يريد.
والأمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون, واهتدى بها أصحابها إلى
اكتشافات واختراعات خدمت البشرية, وسهلت عليها كثيراً من المعاناة.
فالذي اخترع العجلة في نقل الأثقال بنى فكرتها على ثِقل وجده يتحرك بسهولة
إذا وُضع تحته شيء قابل للدوران, فتوصل إلى استخدام العجلات التي مكنته من نقل
أضعاف ما كان يحمله.
والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط
فكرة البخار, وأنه يمكن أن يكون قوة مُحركة عندما شاهد القِدر وهو يغلي , ولاحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى, فاهتدى إلى استخدام
البخار في تسيير القطارات والعربات.
والعالِم الذي اكتشف دواء "
البنسلين" اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها" الريم" تتكون
في أماكن استخدام الماء, وكان يشتكي عينه, فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما
مصادفة, لاحظ أن عينه قد برئت, فبحث في هذه المسألة حتى توصل إلى هذا الدواء.
إلى غير ذلك من الآيات والعجائب في كون الله, التي يغفل عنها الخلق,
ويمرون عليها وهم معرضون.
أما هؤلاء العلماء الذين أثروا حياة
البشرية بنظرتهم الثاقبة, فقد استخدموا عقولهم في المادة التي خلقها الله, ولم
يأتوا بشئ من عند أنفسهم؛ لأن الحق سبحانه حينما استخلف الإنسان في الأرض أعدّ له
كل متطلبات حياته وضمن له في الكون جنوداً إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد
منها, وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الأرض:
(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ..(61) [ هود]
والاستعمار أن تجعلها عامرة, وهذا الإعمار يحتاج إلى مجهود وإلى مواهب متعددة تتكاتف, فلا
تستقيم الأمور إن كان هذا يبنى وهذا يهدم, إذن : لابد أن
تُنظّم حركة الحياة تنظيما يجعل المواهب في الكون تتساند ولا تتعاند , وتتعاضد ولا
تتعارض.
ولا يضمن لنا هذا التنظيم إلا منهج من السماء ينزل بالتي
هي أقوم, وأحكم وأعدل, كما قال تعالى في آية أخرى: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ..(17) [ الشورى]
وإن كان الحق سبحانه وتعالى قد دعانا
إلى النظر في ظواهر الكون, والتدبر في آيات الله في كونه, والبحث فيها لنصل إلى
أسرار ما غُيّب عنا, فإنه سبحانه نهانا أن نفعل هذا مع بعضنا البعض, فقد حرّم
علينا التجسس وتتبُّع العورات, والبحث في أسرار الآخرين وغيبهم.
وفي هذا الأدب الإلهي رحمة بالخلق
جميعاً؛ لأن الله تعالى يريد أن يُثرى حياة الناس في الكون, وهَبْ أن إنساناً له
حسنات كثيرة, وعنده مواهب متعددة, ولكن له سيئة واحدة لا يستطيع التخلّي عنها , فلو تتبعت هذه السيئة الواحدة فربما أزهدتك في كل
حسناته وحرمتك الانتفاع به, والاستفادة من مواهبه أما لو تقاضيت عن هذه السيئة فيه
لأمكنك الانتفاع به.
وهَبْ أن صانعاً بارعاً في صنعته وقد
احتجته ليؤدي لك عملاً فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية ما, لو اشتهر عنه سيئة ما؛
لأزهدك هذا في صَنعته ومهارته, ولرغبت عنه إلى غيره,
وإن كان أقل منه مهارة.
وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى,
فالذي نهاك عن تتبُّع غيب الناس , والبحث عن أسرارهم ؛
نهاهم أيضاً عن تتبُّع غَيْبك والبحث عن أسرارك؛ ولذلك ما أنعم الله على عبيده
نعمة أعظم من حِفظ الغيب عنده هو؛ لأنه ربّ, أما البشر فليس فيهم ربوبية, أ/ر البشر قائم على العبودية, فإذا انكشف لأحدهم
غَيْبُ أخيه أو عيبٌ من عيوبه أذاعه وفضحه به.
إذن فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى
أن نكون طُـلَعة -[ الطلعة: كثرة التطلع إلى الشيء . ومنها نفس طلعة: كثيرة الميل إلى هواها تشتهيه حتى تهلك
صاحبها. [ لسان العرب- مادة: طلع]- في استنباط
أسرار الكون والبحث عن غيبه, وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طُـلَعة في تتبّع
أسرار الناس والبحث عن غيبهم؛ لأنك إن تتبعتَ غيب الناس والتمستَ عيوبهم حرمْتَ
نفسك من مصادر يمكن أن تنتفع بها.
فالحق سبحانه يريد في الكون حركة
متبادلة, وهذه الحركة المتبادلة لا تنشأ إلا بوجود نوع من التنافس الشريف البنّاء,
التنافس الذي يُثري الحياة, ولا يثير شراسة الاحتكاك, كما قال تعالى: (وَفِي
ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26)
[
المطففين]
كما يتنافس طالب العلم مع زميله
المجدّ ليكون مِثله أو أفضل منه, وكأن الحق سبحانه يعطينا حافزاً للعمل والرُّقي,
فالتنافس المقصود ليس تنافس الغِلّ والحقد والكراهية, بل تنافس من يحب للناس ما
يحب لنفسه, تنافس من لا يشمت لفشل الآخرين.
وقد يجد الإنسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه, ونحن نرى الكثير منا
يغضب وتُثار حفيظته إن كان له عدو, ويراه مصدر شرّ وأذى, ويتوقع منه المكروه
باستمرار.
وهو مع ذلك لو استغل حكمة الله في إيجاد هذا العدو لانتفع به انتفاعاً لا
يجده في الصديق؛ لأن صديقك قد ينافقك أو يداهنك أو يخدعك.
أما عدوك فهو لك بالمرصاد, يتتبع
سقطاتك, ويبحث عن عيوبك, وينتظر منك كبوة ليذيعها ,
ويُسمّع بك, فيحملك هذا من عدوك على الاستقامة والبعد عما يشين.
زمن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى
الخير, فتجتهد أنت في الخير حتى لا يسبقك
إليه .
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا
المعنى:
عِداي فَهُمْ فَضلٌعلي
وِمِنّــةٌ أبعَدَ الرحمَنُ
عنّي الأعَاديا
هُمو بحثوا عَنْ زلتي فَاجتنبتها وهُم نَافسوني فاكتَسيتُ
المعاليا
وهكذا نجد لكل شيء في منهج الله
فائدة, حتى في الأعداء, ونجد في هذا التنافس المثمر الذي يُثري حركة الحياة دليلاً
على أن منهج السماء هو الأقوم والأنسب لتنظيم حركة
الحياة.
أيضاً لكي يعيش المجتمع آمناً سالماً لا بُد له من قانون يحفظ توازنه, قانون
يحمي الضعيف من بطش القوي. فجاء منهج الله تعالى
ليُـقنّـن لكل جريمة عقوبتها, ويضمن لصاحب الحق حقّه, وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً
للعفو والتسامح بين الناس.
ثم حذّر القوى أن تُطغيه قوته, وتدعوه إلى ظلم الضعيف, وذكّره أن قوته
ليست ذاتية فيه, بل هي عَرَض سوف يزول, وسوف تتبدل قوته في يوم ما إلى ضَعف يحتاج
معه إلى العون والمساعدة والحماية.
وكان الحق تبارك وتعالى يقول لنا:
أنا أحمي الضعيف من قوتك الآن , لأحمي ضعفك من قوة غيرك
غداً.
أليس في هذا كله ما هو أقوم؟
ونقف على جانب آخر من جوانب هذه
القوامة لمنهج الله في مجال الإنفاق وتصرف المرء في ماله, والمتأمل في هذا المنهج الأقوم يجده يختار لنا طريقاَ وسطاَ قاصداَ لا تبذير فيه ولا
تقتير"1".
1- قتر على
عياله: ضيق عليهم في النفقة. والإقتار:
التضييق على الإنسان في الرزق. [ لسان العرب- مادة:
قتر]-
ولا شك أن الإنسان بطبعه يحب أن
يُثري حياته,وأن يرتقي بها , ويتمتع بترفها, ولا يُتاح له ذلك أن كان مُبذراَ لا يُبقي من دخله على شيء, بل
لابد له من الاعتدال في الإنفاق حتى يجد في جعبته ما يمكنه أن يُثري حياته ويرتقي
بها ويُوفر لأسرته كماليات الحياة فضلاً
عن ضرورياتها.
جاء هذا المنهج الأقوم
في قول الحق تبارك وتعالى:
( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً(67)
[ الفرقان]
وفي قوله تعالى: (وَلاَ
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَّحْسُوراً(29)
[ الإسراء]
فللإنسان في حياته طموحات تتابع ولا تنتهي, خاصة في عصر كثُرت فيه المغريات,
فإن وصل إلى هدف تطلع لما هو أكبر منه فعليه إذن ألا يُبدد كل طاقته, وينفق جميع
دخله.
وكما نهى الإسلام عن التبذير ؛ نهى أيضاً عن البُخل والإمساك؛ لأن البخل مذموم,
والبخيل مكروه من أهله وأولاده, كما أ، البُخل سبب من أسباب الركود والبطالة
والكساد التي تصيب المجتمع, فالممسك لا يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء,
فيسهم ببخله في تفاقم هذه المشاكل, ويكون عنصراً خاملاً يَشقى به مجتمعه.
إذن: فالتبذير والإمساك كلاهما طرف
مذموم, والخير في أبسط الأمور, وهذا هو الأقوم الذي
ارتضاه لنا المنهج الإلهي.
وكذلك في مجال المأكل والمشرب, يرسم
لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلامته وصحته, ويحميه من أمراض الطعام
والتُخمة, قال تعالى:
(وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ(31)
[الأعراف]
فقد علّمنا الإسلام أن الإنسان إذا أكل وشرب على قدر طاقة الوقود الذي
يحتاجه جسمه لا يشتكي ما يشتكيه أصحاب الإسراف في المأكل والمشرب.
والمتأمل في حال هؤلاء الذين يأكلون
كل ما لذ وطاب ولا يحرمون أنفسهم مما تشتهيه, حتى وإن كان ضاراً, نرى هؤلاء عند
كبرهم وتقدّم السِّن بهم يُحرمون بأمر الطبيب من تناول هذه الملذات, فترى في بيوت
الأعيان الخادم يأكل أطيب الطعام,ويتمتع بخير سيده, في
حين يأكل سيده أنواعاً محددة لا يتجاوزها, ونقول له: لأنك أكلتها وأسرفت فيها في
بداية الأمر, فلا بُد أن تُحرم منها الآن.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قال: ( كُلُوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) أخرجه أحمد في
مسنده ( 2/ 181, 182) وابن ماجه في سننه( 2605) والنسائي في سننه ( 5/79) من حديث عبدالله بن عمروا بن العاص رضي الله عنهما.
وأيضا من أسباب السلامة التي رسمها
لنا المنهج القرآني. ألاّ يأكل الإنسان إلا على جوع ,
فالطعام على الطعام يرهق المعدة, ويجرُّ على صاحبه العطب والأمراض, ونلاحظ أ،
الإنسان يجد لذة الطعام وحلاوته إذا أكل بعد جوع, فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان
الخبز الجاف.
وهكذا تجد المنهج الإلهي يرسم لنا
الطريق الأقوم الذي يضمن لنا سلامة الحياة واستقامتها,
فلو تدبرت هذا المنهج لوجدته في أي جانب من جوانب الحياة هو الأقوم
والأنسب.
في العقائد, في العبادات, في الأخلاق
الاجتماعية العامة , في العادات والمعاملات, إنه منهج
ينظم الحياة كلها, كما قال الحق سبحانه:
(
مَّا
فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ..(38) [ الأنعام]
هذا المنهج الإلهي هو أقوم المناهج
وأصلحها؛ لأنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم مَن خلق, ويعلم ما يصلحهم, كما قلنا
سابقاً: إن الصانع من البشر يعلم صنعته, ويضع لها من تعليمات التشغيل والصيانة ما
يضمن لها سلامة الأداء وأمن الاستعمال.
فإذا ما استعملت الآلة حسب قانون
صانعها أدت همتها بدقة وسلِمت من الأعطال, فالذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته,
فيقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا:
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ(14)
[ الملك]
فآفة الناس في الدنيا أنهم وهم صَنعة
الحق سبحانه يتركون قانونه, ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم, وهي قوانين وضعية
قاصرة لا تسمو بحال من الأحوال إلى قانون الحق سبحانه, بل لا وجه للمقارنة بينهما. إذن: لا تستقيم الحياة إلا
بمنهج الله عز وجل.
ثم يقول تعالى:
(
وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً
(9) [ الإسراء]
فالمنفذ لهذا المنهج الإلهي يتمتع
باستقامة الحياة وسلامتها, وينعم بالأمن الإيماني, وهذه نعمة في الدنيا, وإن كانت
وحدها لكانت كافية, ولكن الحق سبحانه وتعالى يُبشرنا بما هو أعظم منها, وبما
ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها, فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نعيمي الدنيا
والآخرة.
نعيم الدنيا لأنك سِرْتَ فيها على منهج معتدل ونظام دقيق يضمن لك فيها
الاستقامة والسلامة والتعايش الآمن مع الخَلق.
ومن ذلك قول الحق سبحانه: (
فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ
يَحْزَنُونَ(38)
[ البقرة]
وقوله تعالى في آية أخرى: (
فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى(123)
[ طه]
ويقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(97)
[ النحل]
وفي الجانب المقابل يقول الحق
سبحانه: (وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ
بَصِيراً(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنسَى(126)
[ طه]
الضنك: الضيق من كل شيء.
والمعيشة الضنك: الضيقة غير المتسعة. [ القاموس القويم 1/295].
فكما أ، الحق تبارك وتعالى جمع
لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والآخرة ففي المقابل جمع لأعدائه
المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, لا ظُـلْماً منه ,
فهو سبحانه مُنزَه عن الظلم والجَوْر, بل عدلاً وقِسطاً
بما نَسُوا آيات الله وانصرفوا عنها.
ومعنى : (يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ..(9)
[ الإسراء]
وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلاحاً, أو على الأقل تُبقِي الصالح
على صلاحه, ولا تتدخل فيه بما يُفسده.
وقوله: (
أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً كَبِيراً
(9)
[ الإسراء]
نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الأجر
بأنه كبير . ولم يَأتِ بصيغة أفعل التفضيل منها ( أكبر),
فنقول: لأن كبير هنا أبلغ من أكبر, فكبير مقابلها صغير, فَـوَصْف الأجر بأنه كبير
يدل على أن غيره أصغر منه, وفي هذا دلالة على عِظَم الأجر من الله تعالى.
أما لو قال: أكبر فغيره كبير, إذن: فاختيار القرآن أبلغ وأحكم. كما قلنا
سابقا: إن من أسماء الحق تبارك وتعالى ( الكبير) وليس من أسمائه أكبر, إنما هي
وَصْف له سبحانه. ذلك لأن ( الكبير) كل ما عداه صغير ,
أما ( أكبر) فيقابلها كبير.
ومن هنا كان نداء الصلاة ( الله
أكبر) معناه أن الصلاة
هو فرض الله علينا أ:بر من أي عمل دنيوي, وهذا يعني أن من أعمال
الدنيا ما هو كبير, كبير من حيث هو مُعين على الآخرة.
فعبادة الله تحتاج إلى طعام وشراب
وإلى مَلبس, والمتأمل في هذه القضية يجد أ، حركة الحياة كلها تخدم عمل الآخرة, ومن
هنا كان عمل الدنيا كبيراً , لكن فرض الله أكبر من كل
كبير.
ولأهمية العمل الدنيوي في حياة
المسلم يقول تعالى عن صلاة الجمعة:
(يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ(10)
[ الجمعة]
والمتأمل في هذه الآيات يجد الحق
تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع, واختار البيع دون غيره من الأعمال؛
لأنه الصفقة السريعة الربح, وهي أيضاً الصورة النهائية لمعظم الأعمال, كما أن
البائع يحب دائماً البيع, ويحرص عليه, بخلاف المشتري الذي ربما يشتري وهو كاره,
فتجده غير حريص على الشراء؛ لأنه إذا لم يشتَرِ اليوم سيشتري غداً.
إذن : فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع, فترك غيره من الأعمال أَولَى .
فإذا ما قُضيت الصلاة أمرنا بالعودة
إلى العمل والسعي في مناكب الأرض, فأخرجنا للقائه
سبحانه في بيته من عمل , وأمرنا بعد الصلاة بالعمل.
إذن: فالعمل وحركة الحياة ( كبير) , ولكن نداء ربك ( أكبر) من حركة الحياة؛ لأن ربك هو
الذي سيمنحك القوة والطاقة, ويعطيك الشحنة الإيمانية, فتُقبِل على عملك بِهمة
وإخلاص.
[1]- هو زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي : صحابي اختُـطف في
الجاهلية صغيراً, واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى
النبي حين تزوجها؛ فتبناه وأعتقه وزوجه بنت عمته, جعل له الإمارة في غزوة مؤتة فاستشهد فيها, توفي 8 هـ .