"وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)"
المصانع تطلق على موارد الماء وتطلق على الحصون لمادا ؟ قالوا : لان الحصون لا تبنى للإيواء فقط لان الإيواء يمنع الانسان من هوام الحياة العادية اما الحصون فتمنعه ايضا من الأعداء الريسين الدين يتربصون به فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة لماذا ؟
" لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)" الشعراء يعني : أتبنون هذه الحصون هذا البناء القوي المسلح تريدون الخلود ؟ وهل انتم مخلدون في الحياة ؟ ان فترة مكث الانسان في الدنيا يسيرة لا تحتاج كل هذا التحصين فهي كظل شجرة سرعان ما يزول .
"وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)"
والبطش : الأخذ بشدة وبعنف يقول تعالى :
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) " البروج
ويقول :
" أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)" القمر
لان الأخذ يأخذ صورا متعددة : تأخذه بلين وبعطف وبشفقة او تأخذه بعنف .
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بطشهم
" بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)" الشعراء
لانك قد تأخذ عدوك بعنف لكن بعد ذلك يرق له قلبك فترحم ذلته لك فتهون عليه وترحمه لكن هؤلاء جبارون لا ترق قلوبهم .
وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود :
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)" الشعراء
هذه الصفات تخدم صفة التعالي وتسعى الى الوصول اليه وكأنهم يريدون صفة العلو التي تقربهم من الألوهية لانه لأحد اعلى من الحق سبحانه ثم يريدون ايضا استدامة هذه الصفة واستبقاء الألوهية :
" لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)" الشعراء
وفي صفة البطش الشديد والجبارية يريدون التفرد على الغير والقران يقول :
" تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا.. (83) " القصص
فان كنت تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة فعليك ان تؤديها لا للتعالي لانك حينئذ ستأخذ حظك من العلو والغلبة في دار الدنيا وتنتهي المسالة اما ان فعلت وفي بالك ربك وفي بالك ان تيسر للناس مصالح الحياة فانك ترقي عملك وتثمره ويظل لك آجره طالما وجد العمل ينتفع الناس به الى ان تقوم الساعة وهذا أعظم تصعيد لعمل الانسان .
ولم يفعل قوم عاد شئ من هدا انما طلبوا العلو في الأرض وبطشوا فيها جبارين لكن ايتتركهم ربهم عز وجل يستمرون على هذا الحال ؟
ان من رحمة الله تعالى بعباده ان يذكرهم كلما نسوا ويوقظهم كلما غفلوا فيرسل لهم الرسل المتوالين لان الناس كثيرا ما تغفل عن العهد القديم الذي احذوه على انفسهم :
" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) " الأعراف
وقلنا ان الحق – تبارك وتعالى – يضع المناعة في خليفته في الأرض ويعطيه المنهج الذي يصلحه لكنه قد يغفل هدا المنهج او تغلبه نفسه فينحرف عنه والإنسان بطبيعته يحمل مناعة من الحق ضد الباطل وضد الشر فان فسدت فيه هده المناعة فعلى الاخر ان يذكره ويوقظ فيه دواعي الخير ومن هنا كان قوله تعالى
" وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) " العصر
فان وجدت أخاك على باطل فخد بيده الى الحق .
ومعنى " وَتَوَاصَوْا .. (3)" العصر
أي : تبادلوا التوصية فكل منكم عرضه للغفلة وعرضه للانحراف عن منهج فان غفلت انا توصيتي وان غفلت انت أوصيك وهذه المناعة ليست في الذات الآن انما في المجتمع المؤمن فمن رأى فيه اعوجاجا قومه .
لكن ما الحال ان فسدت المناعة في الفرد وفسدت في المجتمع فصار الناس لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا كما قال تعالى عن بني إسرائيل :
" كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ...(79) " المائدة
وعندها لابد ان يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد ومعجزة جديدة توقظ الناس وتعيدهم الى جادة ربهم
ومن شرف امة محمد صلي الله عليه وسلم ان الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها فجعلهم الله توابين ان فعل احدهم الذنب تاب ورجع وان لم يرجع وتمادى رده المجتمع الإيماني وذكره .
وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة الى قيام الساعة كما ورد في الحديث :
" الخير في وفي أمتي الى يوم القيامة " (1) (1) قال العجلوني في كشف الخفاء (1/ 476 ) : قال ( السخاري ) في المقاصد الحسنة : قال شيخنا ( ابن حجر العسقلاني ) : لا اعرفه ولكن معنا صحيح يعني في حديث : لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق الى ان تقوم الساعة وقال ابن حجر المكي في الفتاوى الحديثة : لم يرد بهذا اللفظ ".
لذلك ان يأتي فيها رسول بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم لان المناعة ملازمة لها في الذات وفي النفس اللوامة وفي المجتمع الإيماني الذي لا يعدم فيه الخير أبدا .
لدلك يقول سبحانه
" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...(110) " أل عمران
وهده صفة تفردت بها هده الأمة عن باقي الأمم
لذلك يقول هود – عليه السلام – مذكرا لقومه وموقظا لهم :
" فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)"
أي : ان ربكم عز وجل لم يترككم على ما أنتم عليه من الضلال تعبثون بالآيات وتتخذون مصانع تطلبون الخلود وإنكم بطشت جبارين وهاهو يدعوكم :
" فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)" الشعراء
فتقوى الله تعالى وطاعته كفيلة ان تذهب ماضيكم وتمحو ذنوبكم بل وتبدله خيرا وصلاحا
" إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (114)" هود
وأنا حين أوصيكم بنقوى الله وطاعته لا أوصيكم بهذا لصالحي انا فلا اقول لكم : اتقوني او أطيعوني ولن انتفع من طاعتكم بشئ كذلك الحق – تبارك وتعالى – غني عنكم وعن طاعنكم لان له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل ان يخلق الخلق فهو سبحانه متصف بالخلق قبل ان يخلق وبالقدرة قبل ان يوجد المقدور عليه الخ
اذن فوجودكم لم يزد شيئا في صفاته تعالى وما كانت الرسالات الا لمصلحتكم انتم فادا لم تطيعوا أوامر الله وتأخذوا منهجه لانه يفيدكم فأطيعوه جزاء ما انعم عليكم من نعم لاتعد ولا تحصى فالانسان طرأ على كون اعد لاستقباله وهيئ لمعيشته وخلق له الكون كله : سماء فيها الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر وأرضا فيها الخصب والماء والهواء هذا كله قبل ان توجد انت فطاعتك لله – اذن – ليست تفضلا منك انما جزاء ما قدم لك من نعم .
وعجيب ان ترى هذه المخلوقات التي جعلت لخدمتك أطول عمرا منك فالانسان قد يموت يوم مولده وقد يعيش عدة أعوام او عدة سنوات اما الشمس مثلا فهمرها ملايين السنين وهي تخدمك دون سلطان لك عليها ودون ان تتدخل انت في حركتها .