" الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) "
فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين كأن الأرض خلقها الخالق – عز وجل – على هيئة الصلاح في كل شئ لكن يفسدها الانسان بتدخله في أمورها لذلك سبق ان قلنا : انك لو نظرت الى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال وفي منتهى الاستقامة طالما لا تتناوله يد الانسان فان تدخل الانسان في شئ ظهرت فيه علامات الفساد .
ولا يعني هذا الا يتدخل الانسان في الكون لا انما يتدخل على منهج من خلق فيزيد الصالح صلاحا او على الأقل يتركه على صلاحه لا يفسده فان تدخل على غير هذا المنهج فلابد له ان يفسد .
فحين تمر مثلا ببئر ماء يشرب منه الناس فإما ان تصلح من حاله وتزيده ميزة وتيسر استخدامه على الناس كأن تبني له حافة او تجعل عليه إلة رفع تساعد الناس او على الأقل تتركه على حاله لا تفسده لذلك يقول تعالى : " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) " البقرة اما هؤلاء القوم فلم يكتف القران بوصفهم بالفساد وحسب انما ايضا هم " وَلَا يُصْلِحُونَ (152) " الشعراء ذلك الانسان قد يفسد في شئ ويصلح في شأ انما هؤلاء دأبهم الفساد ولا يأتي منهم الصلاح أبدا .
ونكبة الوجود من الدين يصنعون أشياء يرونها في ظاهرها صلاحا وهي عين الفساد لانهم لم يأخذوها بكل تقنياتها القيمية وانظر مثلا الى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا : انها فتح علمي وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع وبمرور الزمن أصبحت هذه المبيدات وبالا على البشرية كلها حيث تسمم الزرع وتسمم الحيوان وبالتالي الانسان حتى الماء والتربة والطيور لدرجة انك تستطيع القول انها أفسدت الطبيعة التي خلقها الله .
وفي هؤلاء قال تعالى :
" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)" الكهف
ثم يقول الحق سبحانه :
" قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)"
" الْمُسَحَّرِينَ (153)" الشعراء جمع مسحر وهي صيغة مبالغة تدل على وقوع السحر عليه اكثر من مرة نقول : مسحور يعني : مرة واحدة ومسحر يعني عدة مرات ومن ذلك قوله تعالى عن ملأ فرعون انهم قالوا له :
" وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)" الشعراء
ولم يقل بكل ساحر انما سحار يعني هده مهنته وكما تقول ناجر ونجار وخائط وخياط .
وان كان بعضهم قال عن نبيهم :
" إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)" الإسراء
فهؤلاء يقولون لنبيهم
" إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)" الشعراء
وعجيب أمر أهل الباطل لانهم يتخبطون في هجومهم على الانيساء فمرة يقولون : ساحر ومرة يقولون : مسحور كيف والساحر لا يكون مسحورا لانه على الأقل يستطيع ان يحمي نفسه من السحر قالوا : بل المراد بالمسحور اختلاط عقله حتى انه لا يدري ما يقول .
ثم ان نبيكم صالحا – عليه السلام – ان كان مسحورا فمن سحره ؟ انتم ام أتباعه ؟ ان كان سحره منكم فانتم تقدرون على كف سحركم عنه حتى يعود الى طبيعته وترونه على حقيقته وان كان من أتباعه لابد انهم سيحاولون ان يعينوه على مهمته لا ان يقعدوه عنها .
اذن : فقولهم لنبيهم : إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)" الشعراء يريدون ان يخلصوا الى عدم أتباعه هو بالذات فهم يريدون تدينا على حسب أهوائهم يريدون عبادة اله لا تكليف له ولا منهج كالدين يعبدون الأصنام وهم سعداء بهذه العبادة لماذا ؟
لان ألهتهم لا تأمرهم بشئ ولا تنهاهم عن شئ لذلك فكل الدجالين ومدعو النبوة رأيناهم يخففون التكاليف عن إتباعهم فقديما اسقطوا عن الناس الزكاة وحديثا أباحوا لهم الاختلاط فلا مانع لديهم من الالتقاء بالمراة والجلوس معها ومخاطبتها والخلوة بها والرقص معها ومادا في ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين ؟ فان قالوا : ساحر نرد عليهم نعم هو ساحر قد سحر من امنوا به فلماذا لم يسحركم انتم وتنتهي هذه المسالة ؟ اذن : هذه تهم لا تستقيم لا هو ساحر ولا هو مسحور انه مجرد كدب وافتراء على أنبياء الله وعلى دعاة الخير في كل زمان مكان .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :
" مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)"
وقولهم :
" " مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)"
الشعراء
اذن : فوجه اعتراضهم ان يكون النبي بشرا كما قال سبحانه في اية أخرى :
" وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) " الإسراء
ولو بعث الله لهم ملكا لجاءهم على صورة بشر وستظل الشبهة قائمة فمن يدريكم ان هدا البشر أصله ملك ؟
" وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) " الانعام
فالمعنى : ما دام ان الرسول بشر لا يمتاز علينا في شئ فنريد منه ان يأتينا بآية يعني : معجزة تثبت لنا صدقه في البلاغ عن ربه " إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)"
الشعراء
ونلحظ ان الحق – تبارك وتعالى – ينتهز فرصة طلبهم لآية ومعجزة فأسرع إليهم بما طلبوا ليقيم عليهم الحجة فقال بعدها :
"قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)"
هذا إجابة لهم لانهم طلبوا من نبيهم ان يخرج لهم من الصخرة (1)( ) كانوا هم الدين سالوا صالحا ان ياتيهم باية واقترحوا عليه بان تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة فطلبوامنه ان تخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض فاخد صالح عليهم العهود والمواثيق لئن اجابهم الله الى سؤالهم واجابهم الى طلبهم ليؤمنن به وليتبعه فلما اعطوه على دلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح الى صلاته ودعا الله فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها ( تفسي ابن كثير 2/ 228 ) ناقة تلد سقبا لا يكون صغيرا كولد الناقة انما تلد سقبا في نفس حجمها فأجابهم " "قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ .. (155)" الشعراء يعني : يوم تشرب فيه لا يشاركها في شربها شأ من مواشيكم .
"وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)" الشعراء أي : تشربون فيه انتم وكانت الناقة تشرب من الماء في يومها ما تشربه كل مواشيهم في يومهم وهذه معجزة في حد ذاتها .
ثم يقول الحق سبحانه :
" وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)"
يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون وان القوم لن يتركوا هده الاية انما سيتعرضون لها بالإيذاء فقال " " وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ .. (156) الشعراء
لكنهم تعدوا مجرد الإيذاء والإساءة فعقروها ثم يتوعدهم :
" فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) " الشعراء
ثم يقول الحق سبحانه :
" فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) "
قال عقروها بصيغة الجمع فهل اشتركت كل القبيلة في عقرها ؟ لا بل عقرهها واحد منهم هو قدار بن سالف (1) ( ) كان رجلا احمر ازرق قصيرا يزعمون انه كان ولد زنية وانه لم يكن من ابيه الذي ينتسب اليه وهو سالف وإنما هو من رجل يقال له ضيان ولكن ولد على فراش سالف ( ابن كثير في تفسيره 2/ 228 )
لكن وافقه الجميع على دلك وساعدوه (2) ( ) انطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغووه غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر فصاروا تسعة رهط وهم الدين قال الله تعالى فيهم " وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) وارتضوا هذا الفعل فكأنهم فعلوا جميعا لانه استشارهم فوافقوا .
" فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) " الشعراء وقال العلماء : الندم مقدمة التوبة .
ثم يقول الحق سبحانه :
" فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)"
فان قلت كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا والندم من مقدمات التوبة؟
نعم الندم من مقدمات التوبة لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عتها :
" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ ..(18)" النساء
اذن : ندموا وتابوا في غير أوان التوبة او انهم أصبحوا نادمين لا ندم توبة من الذنب انما نادمون لانهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به ان فعلوا .
ثم تختتم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مكذبة :
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) "
عزز : يغلب ولا يغلب ومع ذلك هو رحيم في غلبة .
ثم ينتقل الحق سبحانه الى قصة أخرى من مواكب الأنبياء والرسل :
"كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ(1) الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)"
( ) قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 344) : " هو لوط بن هاران بن ازر وهو ابن أخي ابراهيم الخليل عليه السلام وكان الله قد بعثه الى امة عظيمة في حياة ابراهيم عليه السلام " وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها " التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية حيال بيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك ".
فقال هنا ايضا " أَخُوهُمْ .. (161)" الشعراء لانه منهم ليس غريبا عنهم وليحنن قلوبهم عليه " أَلَا تَتَّقُونَ (161)" الشعراء إنكار لعدم التقوى وإنكار النفي يطلب الإثبات فكأنه قال : اتقوا الله .