وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183)
*عَثَا عثواً: أفسد أشد الإفساد.[القاموس
القويم 2/7]
البخس : النقص ، ومعنى {
أَشْيَاءهُمْ
....(183) }[الشعراء] حقوقهم
، إذاً: فالنقص من حَقِّ الغير ذنب ، وقد يكون البخس بأخْذ الشيء كله غَصْباً ، أو
التصرف فيه دون أمر صاحبه ، أو على وجه لا يرضاه.
وهذا كله داخل في { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءهُمْ ....(183) }
[الشعراء]كل ما
ينقص الحق بأخذه بإنقاص ، أو غَصْب أو تصرف على غير إرادة صاحبه فهو بَخس للشيء.
فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه ، فالزكاة مثلاً حينما يقول ربك-عز وجل -:
{
وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ(24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25)} [المعارج]
فما دام قد قيَّده الشرع،
فلا تبخس أنت حَقَّ الفقير، لأنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله الله من
مالك للفقير ، تجد أنه وُضِعَ بحكمة
تُراعي مدى حركة المموِّل ، وما بذل من جهد ونفقات في سبيل تنمية ماله ،
حتى وجبت فيه الزكاة.
فكلما زادت حركتك قَلَّ
مقدار الزكاة في مالك ، فمثلاً الأرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر، والتي
تُسْقى بآلة و نفقات فيها نصف العُشْر ، و في عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر
قال رُبْع العُشْر ، ذلك لأن الشارع الكريم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير
الأموال ، حتى لا يأتي مَنْ يقول : كيف أسعى و يأخذ غيري ثمرة سعيي؟
والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء ، فإنما يحمي به الفقراء و
الأغنياء على حَدّ سواء . وقد حدد
الشارع هذا الحق ، حتى لا تزهد في العطاء
، خاصة في الزكاة.
إن منهج الله يريد أنْ يُريد أنْ يُصوِّب حركة الحياة من الأحياء ،
يريد ألاَّ يجري دم في جسد إلا بخروج عَرق
من هذا الجسد ، وألا يدخل دم في جسد من
عرق سواه ،وإلا فسد المجتمع ، وضَنَّ كل
قادر على الحركة بحركته ؛ لأنه لا يطمئن إلى ثمار حركته أنها لا تعود عليه ، أو أن
غيره سيغـــتصبها منه بأيّ لون من ألوان الاغتصاب.
عندها يفسد المجتمع ؛ لأن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد ،
والآخذ سيتعوَّد البطالة والكسل والخمول ، ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء
من عمل غيره ، وبمرور الوقت يصعب عليه العمل ، وتثقل عليه الحركة ، فيركَنُ إلى ما
نُسمِّيه (بلطجي) في الحياة ، يعيش عالة على غيره .
إذاً : الحق –تبارك و تعالى – يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في
الحياة وثمرة سَعْيه ، فلا يتلصص أحد على ثمرة حياة الآخر ، لأنه إنْ كان عاجزاً
عن الحركة فقد ضمن له ربُّه حقاً في حركة الآخرين تأتيه إلى باب بيته ، سواء أكانت
زكاة أم كانت صدقة؛ و بذلك تسْلَم حركة الحياة للجميع.
لذلك أراد-سبحانه و تعالى –أن
يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلامة التعامل بين الناس ؛ فإنْ كِلت َ لغيرك فوفّ الكيل، وإنْ وزنتَ فوَفِّ الميزان ،
وأجعله بالقسطاس المستقيم ، و لا تبخس
الناس حقوقهم بأي صورة من الصور.
ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل فحسب ، إنما هي نماذج للتعامل ،
تستطيع القياس عليها في كل أمور الحياة
فيما يُقَاس وفيما يُعَدُّ، في الأعمال و في الصناعات ...الخ.
إذاً: فاحذر أنْ تتلصَّص على حقوق الآخرين ، أو أن تبخسها، بأيِّ نوع
من أنواع التسلُّط: غَصباً أو اختطافاً أو
سرقة أو اختلاساً أو رِشْوة...الخ
وقلنا : إن السرقة أن تأخذ شيئاً من حِرزه في غير وجود صاحبه ،
والخطف يكون صاحب الشيء موجوداً، لكنك تأخذه خَطْفاً وتــفر به قبل أن يُمسك بك ، فإنْ أمسك بك فغالبْتَه
وأخذتها رَغماً عنه فهي غَصْب ، أما الاختلاس فأنْ تأخذ من مالٍ أنت مؤتمَنٌ عليه،
ما لا يحق لك أخْذه.
فإذا علم كُلُّ متحرك في
الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه ، وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعاًَ إنْ لم يعمل
وهو قادر دبَّتْ الحركة في كل الأحياء ، وهذا ما يريده الله تعالى لخليفته في الأرض
خاصة ، وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي
نفكر به ، والطاقة التي نعمل بها ، والمادة
التي نستعين بها ، فكلُّ ما علينا أن نُوظف هذه الإمكانات التي خلقها الله توظيفاً مثمراً .
ثم إنْ كانت الزكاة كحق معلومة محددة ، فهناك حَقٌّ آخر غير مُحدد ، في قوله سبحانه : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19) } [الذاريات] ولم يقل (معلوم) ؛ لأن المراد هنا الصدقة المطلقة ، وقد تركها الحق –تبارك و تعالى – ولم يُقِّيدها ليترك الباب مفتوحاً أمام أريحية المعطي ، ومدى كرمه وإحسانه ؛ لذلك جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن صفات المحسنين:
{
إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18) وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19)}
[الذاريات]
*الهجوع: النوم ليلاً ، والتهجاع: النومة الخفيفة .[لسان
العرب-مادة: هجع]
ولأن الحق هنا تفضُّل وزيادة
تركه الشارع الحكيم دون تحديد، وعجيب أن نرى أصحاب الأموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع
العشر مثلاً من ماله ، لا ينظر إلى ما تبقَّى له من رأس المال ، وهي نسبة 97.5% ،
وينظر إلى حَقِّ الفقير وهو يسير 2.5% .
فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه، أو يضعه بحيث يعفيه
من حق آخر ، كالذي يعطي زكاته للخادمة مثلاً ، ليُرضي أمها حتى لا تأخذها من يده ، ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء
مسجد أو مدرسة أو مستشفى ، وهذا كله لا يجوز ؛ لأن مال الزكاة حَقٌّ للمستحقين
المعروفين نصاً في كتاب الله ، ولا يصح أنْ يوجَّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبداً.
ثم يقول سبحانه :
{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183) }[الشعراء]
عثاً
: أي أفسد ، فالمعنى : لا تُفسدوا في الأرض ، فلماذا كرر الإفساد مرة أخرى فقال { مُفْسِدِينَ(183)
}[الشعراء]؟ قالوا : المراد : لا تعثوا في الأرض حالة
كونِكم مفسدين ، أو في نيتكم الإفساد .
وليس في الآية تكرار ، لأنه
فرَّق بين إفساد شيء وأنت لا تقصد إفساده ، إنما حركتك في الحياة أفسدتْه ، وبين
أنْ تُفسد عن قصد وعَمد للإفساد ، حتى لا نمنع العقول أن تفكر وتُجرِّب لتصل إلى
الأفضل ، وتــُـــثري حركة الحياة ، فما دُمْتَ قد قصدتَ الصلاح ، فلا عليك إنْ
أخطأتَ؛ لأن ربك- عَزَّ وجَلَّ – يتولى تصحيح هذا الخطأ ، بل ويُعوِّضك عنه ،
فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر ، و مَنْ اجتهد فأصاب فله أجران –
(عن عمرو بن العاص أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران،
وإذا حكم فأجتهد ثم أخطأ فله أجر ، أخرجه البخاري في صحيحه (7352).ومسلم في صحيحه
(1716)كتاب الأقضية.)
إذاً : المعنى : لا تُفسدوا في الأرض وانتم تقصدون الإفساد، لكن فكيف نُفسِد الأرض ؟ إن إفساد الأرض يعني إفساد المتحرك عليها ؛ لأن الأرض خُلقَت للإنسان
{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا
لِلْأَنَامِ(10) }[الرحمن]
وقد خلقها الله تعالى على هيئة الصلاح ، و الإنسان هو الذي يُفسِدها
، بدليل أنك لا تجد الفساد إلا فيما
للإنسان دَخْل فيه، أما ما لا
تطوله يده ، فيظل على صلاحه ، و على استقامته
وسلامته .
و الإنسان الذي خلقه الله وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الأرض وزيادة صلاحها ، تحقيقاً لقول ربه عز وجل :
{ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ* فِيهَا ....(61) }[هود ]
*أي: أذن لكم في عمارتها واستخراج قوتكم
منها وجعلكم عُمَّارها ، وأعمره المكان واستعمره فيه : جعله يعمره عائشة رضي الله
عنها[لسان العرب-مادة:عمر]
ولا يصلح أن نستعمر الأرض وهي خراب ، فإذا ما كَثُر النسل لا يقابل
زيادة في استثمار الأرض ، فتحدث الأزمات ، ولو أن استثمار الأرض وإصلاحها سار مع زيادة النسل في خطين متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق ، ولما
أحاطت بهم الأزمات.
والآن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلاً تجد المزارع في الصحراء ،
وتجد القرى الجديدة تحولت فيها الأرض الجرداء إلى خضرة ونماء ، فأين كانت هذه
الثورة ؟ لقد كنا كُسالى و في غفلة حتى عَضَّنا الجوع ، وضاقت بنا الأرض الخضراء
في الوادي والدلتا.
وإذا لم يُصلِح الإنسان في الأرض فلا أقلَّ من أنْ يتركها على حالها
الذي خلقها الله عليه ، لكن رأينا الإنسان يُفسد الماء ويُلوثه حين يصرف فيه
مُخلَّفاته ويُفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع ، ويُفسِد التربة بالكيماويات
والمبيدات ، وكل هذا الإفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها الله لنا ؛ ذلك
لأننا نظرنا إلى النفع العاجل ، وأغفلنا الضرر الآجل .
لقد خلق الله لنا وسائل الركوب والانتقال ، وجعلها آمنة لا ضررَ منها:
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ..(8) }
[النحل]
وقال:
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ..(7) } [النحل]
نعم
، وسائل النقل الحديث أسرع ، وأراحتْ هذه المواشي ، لكنها أتعبتْ الإنسان الذي خلق الله
الكون كله لراحته.
فترى الرجل يركب سيارته وكل هَمِّه أنْ يُسرِع بها دون أنْ يهتم
بضبطها وصيانتها ، فينطلق بها مُخلِّفاً سحابة من الدخان السام الذي يؤذي الناس ،
أما هو فغير مكترث بشيء ؛ لأن الدخان خلفه لا يشعر به .
لكن، احذر جيداً، إن ربك –عز وجل –قيوم لا يغفل و لا ينام ، وكما
تدين تُدان في نفسك ، أو في أولادك.
كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهِّد لها الطرق
حتى لا تثير الغبار في وجوه الناس ، وتؤذي تنفسهم ، بل وتؤذي الزرع أيضاً ، كل هذه وجوه للإفساد في
الأرض ؛ لأننا ندرس عاجلَ النفع و لا ندرس آجل الضرر.
وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدِّمات سليمة ، لتصل إلى النتائج السليمة ، و لا تكُنْ من المفسدين
في الأرض.
ومن الإفساد في الأرض قَطْع الطريق، وهو أن المتلصِّص يقيم في مكانه
يرصُد ضحيته إلى أن تمر به ، والإغارة وهي أنْ يذهب المغير إلى المغَار عليه في
مَأْمنه ، فيسلبه ماله.
ومن الإفساد في الأرض الرَّشْوة ، وهي من أنكَى النكبات التي بُلي
بها المجتمع ، وهي تُولِّد التسيب وعدم الانضباط ، فحين ترى غيرك يستغلك ، ويستحل
مالك دون حق ، تعامله وتعامل غيره نفس المعاملة ، فتصير الأمور في الأجهزة
والمصالح إلى فوضى لا يعلم مداها إلا الله .