وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ(184)
*قال مجاهد: الجبلة هي الخليقة ، وجُبِل فلان على كذا أي خُلِق، قال الهروى: هو الجمع ذو العدد الكثير من الناس .[تفسير القرطبي 7/5016]
فإياك أن تظن أن الله تعالى خلقنا عبثاً ، أو يتركنا هملاً ، إنما خلقنا لمهمة في الكون ، وجعلنا جميعاً عبيداً بالنسبة له سواء ،فلم يُحَاب منا أحداً على أحد ، وليس عنده سبحانه مراكز قوى ؛ لذلك لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
ولأننا جميعاً أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا ، فقد تكفل لنا بالرزق ورعاية المصالح ، فَمنِ ابتلاه الله بالعجز عن الحركة فتحركْتَ أنت لقضاء مصالحه ، لا بُدَّ أن ينظر الله إليك بعين البركة والمضاعفة.
فالمعوَّق والفقير بحق-لا الذي يتخذها مهنة وحرفة يرتزق بها – هذا الفقير وهذا المعوق هم خلق الله وأهل بلائه، فحين تعطيه من ثمرة حركتك أنت ، وتذهب إليه وهو مطمئن في بيته ، أنت بهذا العمل إنما تستر على الله بلاءه، وتكون يد الله التي يرزق بها هؤلاء ، وعندها لا بُدَّ أن يحبك الفقير ، وأنْ يدعو لك بالخير والبركة والزيادة والأَجْر والعافية والثواب ، ويعلم أن الله خلقه ولم يُسلمه.
أما إنْ ضَنَّ الغنيُّ الواجد على الفقير المعدَم ،وتخلى عن أهل البلاء، فلا بُدَّ أنْ يسخط الفقير على الغني ، بل يسخط على الله –والعياذ بالله-لأته ما ذنبه أن يكون فقيراً ، وغيره غنيٌّ في مجتمع لا يرحم.
وعجيب أن نرى مُبتلى يُظهر بلواه للناس ، بل ويستغلها في ابتزازهم ، فيظهر لهم إعاقته ، كأنه يشكو الخالق للخَلْق، ولو أنه ستر على الله بلاءه وعَلِم أنه نعمة أنعم الله بها عليه لَسخَّر الله له عافية غير المبتلى ، ولجاءه رزقه على باب بيته ، فلو رَضِى أهل البلاء لأعطاهم الله على قَدْر ما ابتلاهم .
فمعنى : {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ ..... {184} [الشعراء] أي: احذروا جبروته ؛ لأنه خلقكم ، وضمن لكم الأرزاق ، وضمن لكم قضاء الحاجات ، حتى العاجز عن الحركة سخَّر له القادر ، وجعل للغني شرطاً في إيمانه أنْ يًُعطي جزءاً من سَعْيه للفقير ، ويُوصِّله إليه وهو مطمئن.
ومعنى: { وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ {184} [الشعراء] الجبلة من الجبَل ، وكان له دور في حياة العربي ، وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم ، ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات ، فاشتقوا من الجبل(الجبلة) وتعني الملازمة والثبات على الشيء .
ومن ذلك نقول : فلان مجبول على الخير يعني : ملازم له لا يفارقه ، وفلان كالجبل لا تزحزحه الأحداث، والعامة تقول: فلان جِبلَّة يعني : ثقيل على النفس ، وقد يزيد فيقول : (مال جبلّتك وارمة) مبالغة في الوصف.
حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل ، حتى بعد موته ، فيقول عن ممدوحه وقد حملوه في نعشه:
مَا كنتُ أَحـْسـَبُ قَبْل نَعْشِكَ أنْ أَرَى
رَضْوى* عَلَى أيدي الرجَالِ يَسِير
ورَضْوى جبل اشْتُهر بين العرب بضخامته.
*رضوى :جبل بالمدينة.[لسان العرب-مادة :رضى]
ومن ذلك قوله تعالى : }وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ... (62)} [يس]
ومعنى : { وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ {184} [الشعراء] أي: الناس السابقين الذين جُبلوا على العناد وتكذيب الرسُل، فالله خلقكم وخلقهم ، وقد رأيتُم ما فعل الله بهم لما كذَّبوا رسُله ، لقد كتب الله النصر لرسله والهزيمة لمن كذبهم ، فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم جُبِلوا على التكذيب، وكانوا ثابتين عليه لم يُزحزحهم عن التكذيب شيء ،فاحذروا أن تكونوا مثله فينزل بكم ما نزل بهم .فماذا كان ردهم؟
{قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ {(185) [الشعراء]