ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
بعد أنْ قدَّم لنا العبرة والعِظة في موكب
الرسل السابقين ، فيقول الحق سبحانه :
}
وَإِنَّهُ
لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192}
} وَإِنَّهُ ...
{192} [الشعراء] على أيِّ شيء يعود هذا الضمير؟ المفروض أن يسبقه مرجع
يرجع إليه هذا الضمير وهو لم يُسبَق بشيء
. تقول: جاءني رجل فأكرمتُه فيعود ضمير الغائب في أكرمته على (رجل).
وكما
في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)}
[الإخلاص] فالضمير هنا يعود على لفظ الجلالة ، مع أنه متأخر عنه
، ذلك لاستحضار عظمته تعالى في النفس فلا تغيب.
كذلك} إِنَّهُ
... {192}
[الشعراء] أي: القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه :
}لَتَنزِيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ {192}
[الشعراء]وقُدِّم الضمير على
مرجعه لشهرته وعدم انصراف الدهن إلا إليه، فحين تقول{
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)} [الإخلاص]
لا ينصرف إلا إلى الله،
}وَإِنَّهُ
لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192}
[الشعراء] ، لا ينصرف إلا إلى
القرآن الكريم.*
*قال ابن كثير في تفسيره (3/347): ")
وَإِنَّهُ )أي القرآن
الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله{ وَمَا
يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ...(5) } [الشعراء]".
وقال}
لَتَنزِيلُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ {192}
[الشعراء]
أي: أنه كلام الله لم أقلْهُ من عندي، خاصة وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يسبق له أنْ وقف خطيباً في قومه ، ولم يُعرف عنه قبل
الرسالة أنه خطيب أو صاحب قَوْل.
إذاً: فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة ، فإذا كان ما جاء به من
عنده فلماذا لم تأتوا بمثله؟ وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي
المجاز و ذي المجنة، فإن كان محمد قد افترى القرآن فأنتم أقدر على الافتراء ؛
لأنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة.
و }الْعَالَمِينَ
{192} [الشعراء] : كل ما سوى الله عز وجل ؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين للإنس
وللجن وللملائكة
وغيرها من العوالم.
لذلك لما نزلت:
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(107) }[الأنبياء ]
سأل سيدنا رسول الله جبريل عليه السلام:" أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي يا جبريل؟" فقال: نعم، كنت أخشى سوء العاقبة كإبليس، فلما أنزل الله عليك قوله:
{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) }[التكوير]
أمنْتُ العاقبة، فتلك هي الرحمة التي نالتني.
وليس القرآن وحده تنزيل رب العالمين ، إنما كل الكتب
السابقة السماوية كانت تنزيل رب العالمين ، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة
أنها كانت تأتي بمنهج للرسول فقط، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صِدْقه في البلاغ عن الله .
فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة ، ومعجزته العصا،
وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل ، ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ،
أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه القرآن ومعجزته أيضاً ، فالمعجزة
هي عَيْن المنهج ، لماذا؟
قالوا: لأن القرآن جاء منهجاً للناس كافة في الزمان وفي
المكان فلا بد- إذاً-أن يكون المنهج هو عَيْن المعجزة، والمعجزة هي عَيْن المنهج،
وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة
إلا الله ، فهو تنزيل رب العالمين.
أما الكتب السابقة فقد كانت لأنة بعينها في فترة
محددة من الزمن ، وقد نزلتْ هذه الكتب
بمعناها لا بنصها ؛ لذلك عيسى-عليه السلام-يقول :"سأجعل كلامي في فمه" **أي: أن كلام الله
سيكون في فم الرسول بنصِّه ومعناه من عند
الله ، وما دام بنصِّه من عند الله فهو تنزيل رب العالمين.
**أصل هذه البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في
التوراة (العهد القديم) المنزل على موسى: أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما
أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه:[سفر التثنية-الإصحاح
18-عدد18،19]، قال رحمت الله الهندي في " إظهار الحق"ص 510"هو
إشارة إلى أن ذلك النبي سيزل عليه الكتاب، و إلى
أنه سيكون أمياً حافظاً
للكلام".