}عَلَى
قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194}
نزل القرآن على أذن رسول الله ، أم على قلبه ؟ الأذن
هي : أداة السمع، لكن قال تعالى }عَلَى قَلْبِكَ ...
{194}[الشعراء]
لأن الأذن وسيلة عبور للقلب ، لأنه محلُّ التلقِّي ، وهو (دينامو) الحركة في جسم الإنسان ، فبالدم الذي يضخُّه في أعضاء
الجسم وأجهزته تتولد الطاقات والقدرة على الحركة وأداء الوظائف.
لذلك نرى
المريض مثلاً يأخذ الدواء عن طريق الفم ، فيدور الدواء دورة الطعام، ويُمتصُّ
ببطء، فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم
تعطيه حقنة في العضل،لكن الأسرع من هذا أن تعطيه حقنة في الوريد، فتختلط بالدم
مباشرة ، وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة ، فالدم هو وسيلة الحياة في النفس البشرية.
إذاً : فالقلب هو محلُّ الاعتبار والتأمل ، وليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الأذن ؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر :
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى
قَلْبِكَ .....َ(97)}
[ البقرة]
فالمعنى : نزَّله على
قلبك مباشرة : كأنه لم يمر بالأذن: لأن الله
تعالى اصطفى لذلك رسولاً صنعه على
عينه ، وأزال عنه العقبات البشرية التي
تعوق هذه المباشرة ، فكأن قلبه صلى الله عليه وسلم أصبح منتبهاً لتلقي كلام الله ؛
لأنه مصنوع على عَيْن الله ، أما الذين سمعوا كلام الله بآذنهم فلم يتجاوبوا معه،
فكانت قلوبهم مغلقة قاسية فلم تفهم.
والقلب محل التكاليف،
ومُستقر العقائد ، وإليه تنتهي مُحصِّلة وسائل الإدراك كلها ، فالعبن ترى ، والأذن
تسمع ، والأنف يشم، والأيدي تلمس ..ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل ،
فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به ؛ لذلك نسميها عقيدة يعني : أمر عقد القلب عليه ،، فلم
يَعد يطفو إلى العقل ليبحث من جديد ، لقد
ترسخ في القلب ، وأصبح عقيدة ثابتة .
و في آيات كثيرة نجدد المعول والنظر إلى القلب ، يقول تعالى :
{ لَن يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ...(37) }[ [الحج]
و في آية أخرى يُبيِّن أن التقوى مكحلُّها القلب :
{ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ(32) } [
الحج]
و في الشهادة يقول تعالى :
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ .....(283) } [ البقرة]
مع أن الشهادة باللسان ، لا بالقلب.
لذلك يقول النبي صلى
الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير." ألا إن في الجسد
مُضْغة، إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله ، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي
القلب"
حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (2051) ، وكذا مسلم
في صحيحه (1599) ، و احمد في مسنده (4/270،274) من حديث النعمان بن بشير، وأوله
"إن الحلال بين، وإن الحرام بين".
ويُحدِّثنا صحابة
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينز ل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازى رُبعين
أو ثلاثة أرباع مرة واحدة ، فإذا ما
سُرِّى عنه صلى الله عليه وسلم قال: اكتبوا ، ثم يقرؤها عليهم مع وَضْع كل آية في
مكانها من سورتها ، ثم يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فتكون هي هي
كما أملاها عليهم ؛ ذلك لأن القرآن باشر
قلبه لا أذنه.
وكان صلى الله عليه
وسلم لِحرْصه على حفظ القرآن يُردِّده خلف
جبريل ويكرره حتى لا ينساه ، فأنزل الله عليه : {
سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى(6) }
[ الأعلى]
عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه
جبريل بالوحي لم يفرغ حتى يزمل من الوحي يتكلم
النبي صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن يُغْشى عليه ، فقال له جبريل ، لم
تفعل ذلك ؟ قال: مخافة أن أنسى .فأنزل الله عز وجل
{ سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى(6) }
[ الأعلى] . أخرجه
الطبراني في معجمه الكبير(12649) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/136) وقال " فيه جويير وهو
ضعيف" وكذا ضعْفه السيوطي في أسباب النزول(ص 296).
وقال في موضع آخر:
{ ُ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل
رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً(114) }[ طه]
وقال تعالى :
{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19) }[القيامة]
ومن عجيب أمر القرآن أنك لا تجد شخصاً يُلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها نَصاً ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تُلْقى عليه السورة ، فيعيدها كما هي ، ذلك من قوله تعالى :
{ سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى(6) }
[الأعلى]
وقوله
سبحانه : } لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194}[الشعراء]
المنذر: الذي
يُحذَّر من الشر
قبل وقوعه ليحتاط السامع
فلا يقع في دواعي الشر، و لا يكون الإنذار
ساعة وقوع الشر ، لأنه في هذه الحالة لا يُجدي ، و كذلك البشارة بالخير تكون قبل
حدوثه لتحثَّ السامع على الخير ، وتحفزه إليه.
يقول سبحانه في آية أخرى:
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ..(6) }[يس
]
فكما أنذر الرسل
السابقون أقوامهم ، أنْذِر أنت قومك ، وانضم إلى موكب الرسالات.