إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
هؤلاء هم الذين يظلمون أنفسهم بعدم المشاركة فى الجهاد وهذا ما يحدث لهم عندما تقبض الملائكة ارواحهم. و" التوفى" معناه "القبض"؛ فيقال: " توفيت دَيْنى" أى قبضته مستوفياً. ويقال:" توفى الله الإنسان" أى قبضه غليه مستوفياً. والقَبض له آمر أعلى، وهو الحق. ومن بعد ذلك هناك موكل عام هو "عزرائيل" ملك الموت، وهناك معاونون لعزرائيل وهو الملائكة. فإذا نسبت الوفاة فهى تنسب مرة لله، فالله يتوفى : لأنه الآمر الأعلى، وتنسب الوفاة للملاءكة فى قوله:
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)
(من الآية 61 سورة الأنعام)
وتنسب الوفتة إلى عزرائيل.
(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)
(من الآية 11 سورة السجدة)
وإذا ما أطلق الحق هذه الساليب الثلاثة فى وصف عملية الوفاة فهل هذا اختلاف وتناقض وتضارب فى اساليب القرآن؟لا، بل هو إيضاح لمراحل الولاية التى صنعها الله، فهو الآمر الأعلى يصدر الأمر إلى عزرائيل، وعزرائيل يطلق الأمر لجنوده. وفى حياتنا ما يشرح لنا هذا المثل – والله المثل الأعلى – فالتلميذ قد يذهب إلى المدرسة بعد امتحان آخر العام ويعود إلى بيته قائلاً: لقد وجدت نفسى راسباً، والسبب فى ذلك هم المرسون الذين قصدوا عدم إنجاخى.
ويرد عليه والده: المدرسون لم يفعلوا ذلك، ولكن اللوائح التى وضعتها الوزارة لتصحيح الامتحانات هى التى جعلتك راسباً. فيرد التلميذ: لقد جعلنى الناظر راسباً. وهذا قول صحيح؛ لأن الناظر يطبق القوانين التى يحكم بمقتضاها على الطال أن يكون ناجحا أو راسبا. وقد يقول التلميذ: إن وزير التربية والتعليم هو من جعلنى راسباً وهذا أيضاً صحيح، لأن الوزير يرسم مع معاونيه الخطوط الساسية التى يتم حساب درجات كل تلميذ عليها، فإذا قال التلميذ: لقد جعلتنى الدولة راسباً، فهو قول صحيح؛ لأنه فهم تسلسل التقنين إلى مراحل العلو المختلفة وأى حلقة من هذه الحلقات تصلخ أن تكون فاعلاً. ومن هنا نفهم ان الحق سبخانه حين يقول:
( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )
( من الآية 42 سورة الزمر )
فهذا قول صحيح، مثل قوله سبحانه:
( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ )
( من الآية 11 سورة السجدة )
ومثل قوله سبحانه:
( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا )
( من الآية 61 سورة الأنعام )
كل هذه الأقوال صحيحة؛ لأنها تتعلق بمدارج الآمر.
"إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم" والظلم هو أن تأتى لغير ذى الحق وتعطيه ما تأخذ من ذى الحق، والظلم يقتضى ظالماً ومظاوماً وأمرا وقع الظلم فيه.
فكيف يكون الإنسان ظالماً لنفسه وتتوفاه الملائكة على ذلك؟. لابد أنهم فعلوا مايستحق ذلك. فساعة تأتى للإنسان الشخصية المعنوية الإيمانية بعد أن آمن بالله وآمن بالمنهج، ثم تحدثه نفسه بالمخالفة، هنا يواجه صراعاً بين أمرين: مسئولية الشخصية الإيمانية التى تَقَبَل منها المنهج من الله، ووازع النفس التى تلح عليه بالانحراف. ويدور ماهو أشبه بالحوار بين المسئولية الإيمانية ووازع النفس الملح بالانحراف. وعندما تتغلب النفس الإيمانية يعرف الإنسان أن نفسه صارت مطمئنة وسعيدة، ويقول لنفسه: إنك إن طاوعت وازع الانحراف تكن قد حققت شهوة عاجلة ستكوى بها فى آخر الأمر، وأنت برفضك للشهوة تكون قد أنصفت نفسك. ولو طاوعت شهوتك العاجلة تكون قد ظلمت نفسك.
ومثل ذلك يحدث فى حياتنا العادية: عندما تدلل الأم ابنها بينما يطلب منه والده الاستذكار ويحاول أن يردعه ليقوم بسئوليته الدراسية، إن هذه الأم تظلم ابنها، وكذلك يعطينا الحق فكرة عن الصراع بين الشخصية الإيمانية والنفس الانحرافية التى تريد الهوى فقط فيقول:
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) )
(سورة المائدة)
هنا يقول هابيل لقابيل:
- ولماذا تقتلنى؟. إننى لست أنا الذى تقبل القربان ولكن الذى تقبله هو الله فما ذنبى؟.
ويأتى بعد ذلك الحوار:
( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) )
(سورة المائدة)
ولنلتفت إلى هذا القول الحكيم:
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ)
( من الآية 30 سورة المائدة)
كأن هناك صراعاً فى نفس قابيل بين أمرين "اقتل" و"لاتقتل" ، النفس الإيمانية تقول: "لا تقتل" والنفس الشهوانية تقول: "بل عليك أن تقتل".
وتغلبت النفس الشهوانية عندما طوعت له قتل أخيه، ومهدت له ذلك. وبعد أن قتل أخاه، وضاعت شِرة الغضب صار من النادمين، ثم بدأت الحيثيات تظهر وتتضح. ويبعث الله غراباً يبحث ويحفر فى الأرض ليوارى جثة غراب آخر. هنا قال قابيل:
(أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي)
( من الآية 31 سورة المائدة)
وهكذا نرى أن ظلم النفس هو أن نخالف ماشرع الله للنفس لينفعها نفعاً أبدياً مستوفياً، ولكن النفس قد تندفع وراء حبها للشهوات وتمنيها للنفع العاجل الذى لا خلود له، وعندما يحقق الإنسان هذا النفع العاجل لنفسه فهو يظلم نفسه.
"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم" إذن فالملائكة تسأل ظالمى أنفسهم: "فيم كنتم" أى فى أى شئ كنتم من أمر دينكم؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع أى لماذا ظلمتم أنفسكم؟ ولماذا لم تفعلوا مثلما فعل إخوانكم وهاجرتم وانضممتم لموكب الإيمان وموكب الجهاد؟.، ولماذا ظللتم فى أماكنكم محجوزين ومحاصرين ولا تستطيعون الحركة ولا تستطيعون الفِكاك؟ وتكون إجابة الذين ظلموا أنفسهم: "قالوا كنا مستضعفين فى الأرض". وبالله عندما يحكى لنا الله هذه الصورة التى تحدث يوم القيامة فهل سيكون عندنا وقت للاستفادة منها؟. طبعاً لا؛ لأنه لن يكون لنا قدرة الاستدراك لنصحح الخطأ.
والحق حين يقص علينا هذا المشهد فذلك من لطفه بنا، وتنبيه لكل منا: احذروا أن يأتى موقف ويحدث فيه ما أوضحتم لكم ولن يستطيع أحد أن يستدرك الحياة ليصنع العمل الطيب. وعلى كل منكم أن يبحث أمر نفسه الآن.
"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض" وكلمة "كنا مستضعفين فى الأرض" تفيد أن قوماً استضعفوهم، أى أنهم لم يكونوا قادرين على الخروج والهجرة ولا يعرفون السبيل إليها، وخافوا على أموالهم وديارهم، والقوم الذين استضعفوهم قالوا لهم: إن خرجتم لا تأخذوا شيئاً من أموالكم. هذه هى بعض مظاهر الاستضعاف. وهنا تقول الملائكة ما يفيد أن هذا الكلام لا يليق ولا ينفع، تقول الملائكة: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها".
وكأن هذا تنبيه آخر، وإعلان أن مثل هذا القول ومثل تلك الحجة لا قيمة لها؛ لأن الذى يمسكه مكانه وماله دون الله إنما هو من وضع وربط يقينه بالأسباب. أما الذى يضع منهج الله فوق مكانه وولده وكل شئ فهذا هو الذى وثق بالله لأنه هو المسبب وهو مانح ومعطى الأسباب.
"ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" وهذا القول على لسان الملائكة قادم من القانون الأعلى، فقد خلق الحق الخلق جميعاً وأسكنهم فى الأرض، وهذه الأرض ليست لأحد دون أحد، فمن يضق به مكان فليذهب إلى مكان آخر.
وإذا كان الإنسان من ظلمه وجبروته وعتوه قد صنع تحديدا للمكان، فلا ينتقل إنسان من مكان إلى مكان إلا بعد سلسلة طويلة من التعقيدات التى تحول دون الانتقال من مكان إلى مكان، فذلك مناقضة لقضية الخلافة فى الأرض؛ لأن الخلافة لم توزع كل جماعة على أرض ما. ولكن الإنسان ، كل إنسان خليفة فى الأرض كل الأرض، مصداقاً لقول الحق:
( وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) )
(سورة الرحمن)
فقد جعل الله الأرض متضعة مسخرة مذللة للإنسان، والأرض هى أى أرض، والأنام هم كل الأنام. وإن لم ينتبه العالم إلى هذه القضية ويجعلها كونية اجتماعية، سيظل العالم فى فساد وشقاء. فالذى يجعل الحياة فى الأرض فاسدة هو خروج بعض الآراء التى تقول: إن الكثافة السكانية تمنع أن نجد الطعام لسكان بلد ما. يقولون ذلك فى حين أن أرضاً أخرى تحتاج غلى أيد عاملة، ولذلك نجد أن البشرية أمام وضع مقلوب، فأرض فى بلاد تحتاج إلى أناس، وأناس فى بلاد يحتاجون إلى الأرض.
ومن الواجب أن تسيح المسألة فتأخذ الأرض التى بلا رجال ما تحتاجه من الرجال من البلاد التى لا أرض فيها. وهذا الضجيج الذى يعلو فى الكون سببه أنه يوجد فى كون الله أرض بلا رجال ورجال بلا أرض، فغذا ما ضاق مكان بإنسان فله أن يذهب إلى مكان آخر، ولو كان الأمر كذلك لسعدت البشرية، ومن ينقض هذه القضية فعليه أن يعرف أنه يأخذ الخلافة فى الأرض بغير شروطها، فالذى يفسد الأمر فى الأرض أن الإنسان الخليفة فى الأرض نسى أنه خليفة واعتبر نفسه أصيلاً فى الكون. وما دام قد اعتبر نفسه أصيلاً فى الكون فهذا هو الفساد:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97))
(سورة النساء)
إذن، فإن أقام الإنسان على ضيم ولم يعمل فكره وعقله ولم يطرح قضية الكون أمامه ليرى الأرض التى تسعه فيهاجر فيها فعليه أن يعرف أنه مهدد بسوء المصير؛ لأن الله قد جعل له الكون كله ليكون فيه خليفة، أمَا الذين سوف ينجون من هذا العقاب ومن تعنيف الملائكة لهم ساعة الوفاة فهم مَن يقول عنهم الحق فى الآية التالية :
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)