وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثاً، فقد كان يكفى أن يقول لنا ماسبق. لكنه يريد أن يحسم مثل هذه الأمور؛ فلا مجادلة فى الذين يختانون أنفسهم. والجدل كما نعرف هو الفتل. وحين يفتل افنسان شيئاً، مثل أن يحضر بعضاً من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلاً، فهو يقتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلاً للشد والجذب، ولذلك يقال عن مثل هذه العمليه: إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة. وكذلك شان الخصمين؛ كل واحد منهما يريد تقوية حجته، فيحاول جاهداً أن يقويها بما يشاء من أساليب لىَ القول ولحنه أو الفصاحة فى الأسلوب. لذلك يأتى الأمر إلى الرسول: لا تقو مركز اى إنسان يختان نفسه.
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى "يختانون أنفسهم"، فلابد أن لهذا معنى كبيراً؛ لأن الخيانة هى أن تأخذ غير الحق. ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أَمِنَ المعقول أن يخون الإنسان نفسه؟ إن مثل هذ العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان غيره من أجل مصلحة نفسه، أو ليعطى نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة، وهذه خيانة للنفس؛ لأن الإنسان فى مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة.
وهكذا نرى أن الذى يخون الناس إنما يخون-ضمناً- مصلحة نفسه. وإذا ما خان الإنسان نفسه فهذا ليس سهلاً ويتطلب افتعالاً، ولذلك يقول الحق: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً".
والآية التى تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لم تأت بكلمة "خوانين" ولكن جاءت بالخائنين، وهنا يأتى الحق بكلمة خوَان. وفيه فرق بين "خائن"، "خوَان"، فالخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوَان فتصدر منه الخيانة مراراً. أو يكون المعنى هو: أن الخائن تصدر منه الخيانة فى أمر يسير صغير، أما الخوَان فتصدر منه الخيانة فى أمر كبير. إذن. فمرة تأتى المبالغة فى تكرير الفعل، وأخرى فى تضخيم الفعل.
ومن لطف الله أنه لم يقل "خائن"؛ لأن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى الأمر، ولم يخرجه الله عن دائرة الستر إلا إذا أخذ الخيانة طبعاً وعادة وحرفة. وقد جاءت ليدنا عمر- رضى الله عنه – امرأة أخذ ولدها بسرقة، وأراد عمر – رضى الله عنه – أن يقيم على ذلك الولد الحد، فبكت الأم قائلة: يا أمير المؤمنين والله ما فعل هذا إلا هذه المرة. قال عمر: كذبت. والله ما كان الله لياخذ عبداً بأول مرة.
ولذلك يقولون: إذا عرفت فى رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة. فلتعلم أن لها أخوات؛ فالله لايمكن أن يفضح أول سيئة؛ لأنه سبحانه يحب أن يستر عباده، لذلك يستر العبد مرة وثانية، ثم يستمر العبد فى السيئة فيفضحها الله: "إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً" والإثم أفظع المعاصى. والقوم الذين ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفعوا عنده لإبن أبيرق لكى يحكم له الرسول ضد اليهودى، لماذا صنعوا ذلك؟. لأنهم اتفظعوا أن يفضح أمر مسلم ويبرأ يهودى، استحيوا أن يحدث هذا، وعالج القرآن هذه القضية وذلك ليأتى بالحيثية التى دعتهم إلى أن يفعلوا هذا ويقضى على مثل هذا الفعل من أساسه، فقال:
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)