وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
ويردد الحق كلمة "كسب" عندما يتناول أمراً خَيَرا فعله الإنسان، ويصف ارتكاب الفعل السيئ بـ"اكتسب"، لماذا؟ لأن فعل الخير عملية فطرية فى الإنسان لا يستحيى منه، لكن الشر دائماً هو عمليه يستحيى منها الإنسان؛ لذلك يحب أن يقوم بها فى خفية، وتحتاج إلى افتعال من الإنسان.
ولنضرب هذا المثل للإيضاح- ولله المثل الأعلى- نحن نجد الرجل ينظر إلى وسامة زوجته بكل ملكاته، لكنه لو نظر إلى واحدة أخرى من غير محارمه فهو يقوم بعملية لخداع ملكات النفس حتى يتلصص ليرى هذه المرأة. ويحاول التحايل والافتعال ليتلصص على ما ليس له. ولذلك يقال عن الحلال: إنه "كسب" ويقال عن الحرام: إنه "اكتساب".
فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال: "كسب سيئة" فهذا أمر يستحق الالتفات؛ فالإنسان قد يعمل السيئة ويندم عليها بمجرد الانتهاء منها إن كان من أهل الخير، ونجده يوبخ نفسه ويلومها ويعزم على الا يعود غليها. لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكانها حققت له كسباً ويفخر بها متناسياً الخطر الجسيم الذى سوف يواجهه يوم القيامة والمصير السود، وهو حين يفخر بالمعصية ففى غعلان عن فساد الفطرة، وسيادة الفجور فى أعماقه، وهو يختلف غن ذلك الذى تقع عليه المعصية ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر الله.
"ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه" فإياك أيها الإنسان أن تظن أنك حين تظلم أحداً بعمل سوء قد كسبت الدنيا؛ فوالله لو علم الظالم ماذا أعد الله للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه. وأضرب هذا المثل للإيضاح –ولله المثل الأعلى دائماً- هب أن رجلاً له ولدان. وجاء ولد منهما وضرب أخاه أو خطف منه شيئاً يملكه، ورأى الأب هذا الحادث، فأين يكون قلب الأب ومع من يكون؟
إن الأب يقف مع المظلوم، ويحاول أن يرضيه، فإن كان الأخ الظالم قد أخذ منه شيئاً يساوى عشرة قروش، فالأب يعوض الابن المظلوم بشئ يساوى مائة قرش. ويعيش الظالم فى حسرة، ولو علم أن والده سيكرم أخاه المظلوم لما ظلمه أبداً. إذن فالظلم قمة من قمم الغباء.
ومن ضمن المفارقات التى تروى مفارقة تقول :إن كنت ولا بد مغتاباً فاغتب أبويك. ولابد أن يقول السامع لذلك: وكيف أغتاب أبى وأمى؟ فيقول صاحب المفارقة: إن والديك أولى بحسناتك، فبدلاً من أن تعطى حسناتك لعدوك ابحث عمن تحب وأعطهم حسناتك. وحيثية ذلك هى: لا تكن أيها المغتاب أحمق لأنك لا تغتاب إلا عن عداوة، وكيف تعطى لعدوك حسناتك وهى نتيجة أعمالك؟
ونعرف ما فعله سيدنا الحسن البصرى، عندما بلغه أن واحداً قد اغتابه. فأرسل إلى المغتاب طبقاً من البلح الرطب مع رسول، وقال للرسول: اذهب بهذا الطبق غلى فلان وقل له: بلغ سيدى أنك اغتبته بالأمس فأهديت له حسناتك، وحسناتك بلا شك أثمن من هذا الرطب. وفى هذا إيضاح كاف لذم الغيبة.
"زمن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً" ونعلم أنه إذا جاءت أى صفة من صفات الحق داخلة فى صورة كينونة أى مسبوقة بـ"كان" فإياكم أن تأخذوا "كان" على أنها وصف لما حدث فى زمن ماضٍ، ولكن لنقل "كان ومازال". لماذا؟ لأن الله كان أزلاً، فهو غفور رحيم قبل أن يوجد مغفور له او مرحوم؛ فالله ليس من أهل الأغيار، والصفات ثابته له؛ لأن الزمن فى الأحداث يتغير بالنسبة للأغيار فقط، وعلى سبيل المثال نجد الواحد من البشر صحيحاً فى زمن ومريضاً فى زمن آخر.
ولذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الماضى إلا أصحاب الأغيار. وكذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الحاضر إلا فى أصحاب الأغيار. ومادام الله هو الذى يغير ولا يتغير فلن يغيره زمن ما، بل كان فى الأزل غفوراً رحيماً، ولا يزال أيضاً غفوراً رحيماً. وكذلك كان علم الله أزلياً وحكمته لا حدود لها.
وبعد ذلك يقول الحق:
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)