(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115))
(سورة النساء)
والهدى – كما نعرف – هو الطريق الموصل إلى الغاية. فكل فعلٍ من أفعال الخلق لابد له من هدف. ومن فعل فعلاً بلا هدف يعتبره المجتمع فاقداً للتمييز. أما إذا كان الإنسان صاحب هدف فهو يتعرف على جدَية هدفه وأهميته. ويبحث له عن أقصر طريق، هذا الطريق هو ما نسميه الهدى. ومن يعرف الطريق الموصل إلى الهدى ثم يتبع غير سبيل المؤمنين فهو يشاقق الرسول، ولا يلتحم بمنهج الإيمان ولا يلتزم به، ومن يشاقق إنما يرجع عن إيمانه.
وهكذا نعرف أن هناك سبيلا وطريقا للرسول، ومؤمنين اتبعوا الرسول بالتحام بالمنهج، ومن يشاقق الرسول يخالف المنهج الذى جاء به الرسول، ويخالف المؤمنين أيضاَ.
والحق هو القائل:
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ (153))
(من الآية 153 سورة الأنعام)
فليس للحق إلا سبيل واحد. ومن يخرج عن هذا السبيل فما الذى يحدث له؟. هاهى ذى إجابة الحق: "نولَه ما تولَى ونصله جهنم وساءت مصيراً". وقد يأتى لفظ من المحتمل أن يكون أداة شرط ويحتمل أن يكون اسماً موصولاً مثل قولنا: مَن يذاكرُ ينجحُ. بالضم فيهما، و"من" هنا هى اسم موصول؛ فالذى يذاكر هو مَن ينجح. وقد نقول: مَن يذاكرْ ينجحْ. بالسكون وهنا "مَن" شرطية.
وفى الاسم الموصول نجد الجملة تسير على ماهى، أما إذا كانت شرطية، فهناك الجزم الذى يقتضى سكون الفعل؛ ويقتضى-أيضا-جواباً للشرط. و"من" تصلح أن تكون اسماً موصولاً، وتصلح أن تكون أداة شرط، ونتعرف- عادة- على وضعها مما يأتى بعدها. مثال ذلك قوله الحق:
"ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبعْ" ونجد "يتبع" هنا عليها سكون الجزم، وهذا يدل على أن "مَنْ" شرطية.
وتختلف القراءة لو اعتبرنا "مَن" اسم موصول؛ لأن هذا يستدعى ترك الفعل "يشاقق" فى وضعه كفعل مضارع مرفوع بالضمة، وكذلك يكون "يتبعْ" فعلاً مضارعاً مرفوعاً بالضمة؛ عند ذلك نقول: "نوليه مانولى ونصليه". ولكن إن اعتبرنا "مَن" أداة شرط- وهى فى هذه الآية شرطية- فلابد من جزم الفعل فنقرأها "ومن يشاققْ الرسول من بعد ماتبين له الهدى". وكذلك نجزم الفعل المعطوف وهو قوله: (ويتبعْ) ويجزم جواب الشرط وما عطف عليه وهو قوله : (نولَهِ) (ونصْلِه) والجواب وما عطف عليه مجزومان بحذف حرف العلة وهى الياء من آخره "ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً". ومعنى "تَوَلَى" أى قرب، ويقال: فلان وَلىِ فلان، أى صار قريباً له. ومن يتبع غير سبيل المؤمنين، فالحق لا يريده بل ةيقربه من غير المؤمنين ويكله إلى أصحاب الكفر. وهاهو ذا الحق سبحانه يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معى فيه غيرى تركته وشرِكه"(1) رواه مسلم وابن ماجه عن أبى هريرة.
فالذى يحتاج إلى الشرك هو من به من ضعف، ويريد شريكاً ليقويه فيها. وعلى سبيل المثال- ولله المثل الأعلى- لانجد أحداً يشارك واحداً على تجارة إلا إذا كان لا يملك المال الكافى لإدارة التجارة أو لا يستطيع أن يقوم على شأنها. وسبحانه حين يعلمنا:
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك معى فيه غيرى تركته وشرِكه"(1) رواه مسلم وابن ماجه عن أبى هريرة.
أى أن له مطلق القوة الفاعلة التى لا تحتاج إلى معونة، ولا تحتاج إلى شريك؛ لأن الشركة أول ما تشهد فإنها تشهد ضعفا من شريك واحتياجاً لغريب. ولذلك فمن يشاقق الرسول فى أمر إيمانى فالحق يوليه مع الذى كفر ويقربه من مراده وسبحانه يعلم أن الإنسان لن ينتفع بالشئ المشاقق لرسول الله، بل يكون جزاء المشاقق لرسول الله والمتبع لغير سبيل المؤمنين أن يقربه الله ويدنيه من أهل الكفر والمعاصى، ويلحقه بهم ويحشره فى زمرتهم. ولا يعنى هذا أن الله يمنع عن العبد الرزق، لا، فالرزق للمؤمن وللكافر، وقد أمر الله الأسباب أن تخدم العبد إن فعلها. ومن رحمة الله وفضله أنه لا يقبضن النعمة عن مثل هذا العبد، فالشمس تعطيه الضوء والحرارة، والهواء يهب عليه، والأرض تعطيه من عناصرها الخير:
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20))
(سورة الشورى)
ويقول سبحانه:
(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20))
(سورة الإسراء)
وهكذا نجد العطاء الربانى غير مقصور على المؤمنين فقط ولكنه للمؤمن وللكافر، ولو لم يكن لله إلا هذه المسألة لكانت كافية فى أن نلتحم بمنهجه ونحبه.
"ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" ولا بد أن يكون المصير المؤدى إلى جهنم غاية فى السوء. وبعد ذلك تأتى سيرة الخيانة العظمى للإيمان، إنها قول الحق سبحانه:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)