وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) |
والتسخير كما علمنا من قبل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أن
يتخلف عنها، ولا اختيار له في أن يؤديها أو لا يؤديها ونعلم أن الكون كله
مسخر للإنسان قبل أن يوجد؛ ثم خلق الله الإنسان مختاراً. وقد يظن البعض أن
الكائنات المسخرة ليس لها اختيار، وهذا خطأ؛ لأن تلك الكائنات لها اختيار
حسمته في بداية وجودها، ولنقرأ قوله الحق: |
وهكذا نجد
أن أمراً من الله قد صدر للبحر بأن يحمل موسى إلي الشاطئ فور أن تلقيه أمه فيه.
وهكذا يتضح لنا معنى التسخير للبحر في مهام أخرى، غير أنه يوجد به السمك ونستخرج
منه الحلي. ونعلم أن ماء البحر مالح؛ عكس ماء النهر وماء المطر؛ فالمائية تنقسم إلي
قسمين؛ مائية عذبة، ومائية ملحية. وقوله الحق عن ذلك:
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا
......(12)
(سورة فاطر)
ويسمونهم الاثنين على التغليب في قوله الحق:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ (19)
(سورة الرحمن)
والمقصود هنا الماء العذب والماء المالح، وكيف يختلطان، ولكن الماء العذب يتسرب إلي
بطن الأرض، وأنت لو حفرت في قاع البحر لوجدت ماء عذباً، فالحق سبحانه هو الذي شاء
ذلك وبينه في قوله:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .... (21)
(سورة الزمر)
وهنا يقول سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا .....(14)
(سورة النحل)
واللحم إذا أطلق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من الأنعام، أما إذا قيد بـ"لحم طري"
فالمقصود هو السمك، وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني؛ لأن السمك الصالح للأكل
يكون طرياً دائماً. ونجد من يشتري السمك وهو يثني السمكة، فإن كانت طرية فتلك علامة
على أنها صالحة للأكل، وإن كانت لا تثنى فهذا يعني أنها فاسدة، وأنت إن أخرجت سمكة
من البحر تجد لحمها طرياً؛ فإن ألقيتها في الماء فهي تعود إلي السباحة والحركة تحت
الماء؛ أما إن كانت ميتة فهي تنتفخ وتطفو. لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
أكل السمك الطافي لأنه الميتة، وتقيد اللحم هنا بأنه طري كي يخرج عن اللحم العادي
وهو لحم الأنعام؛ ولذلك نجد العلماء يقولون: من حلف ألا يأكل لحماً؛ ثم أكل سمكاً
فهو لا يحنث؛ لأن العرف جرى على أن اللحم هو لحم الأنعام. ويقول الحق سبحانه في نفس
الآية عن تسخير البحر:
.... وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا .....(14)
(سورة النحل)
وهكذا نجد أن هذه المسألة تأخذ جهداً؛ لأنها رفاهية؛ أما السمك فقال عنه مباشرة:
....َ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْمًا طَرِيًّا ..... (14)
(سورة النحل)
والأكل أمر ضروري لذلك تكفله الله وأعطى التسهيلات في صيده، أما الزينة فلك أن تتعب
لتستخرجه، فهو ترف. وضروريات الحياة مجزولة؛ أما ترف الحياة فيقتضي منك أن تغطس في
الماء وتتعب من أجله. وفي هذا إشارة إلي أن من يريد أن يرتقي في معيشته؛ فليكثر من
دخله ببذل عرقه؛ لا أن يترف معيشته من عرق غيره. ويقول سبحانه:
..... وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ....(14)
(سورة النحل)
والحلة كما نعلم تلبسها المرأة. والملحظ الأدنى هنا أن زينة المرأة هي من أجل
الرجل؛ فكأن الرجل هو الذي يستمتع بتلك الزينة، وكأنه هو الذي يتزين. أو: أن هذه
المستخرجات من البحر ليست محرمة على الرجال مثل الذهب والحرير؛ فالذهب والحرير نقد؛
أما اللؤلؤ فليس نقداً. واللبس هو الغالب الشائع، وقد يصح أن تصنع من تلك الحلية
عصاً أو أي شيء مما تستخدمه. ويتابع في نفس الآية:
.... وَتَرَى الْفُلْكَ
مَوَاخِرَ فِيهِ ....(14)
(سورة النحل)
ولم تكن هناك بواخر كبيرة كالتي في عصرنا هذا بل فلك صغيرة. ونعلم أن نوحاً عليه
السلام هو أول من صنع الفلك، وسخر منه قومه؛ ولو كان ما يصنعه أمراً عادياً لما
سخروا منه. وبطبيعة الحال لم يكن هناك مسامير لذلك ربطها بالحبال؛ ولذلك قال الحق
سبحانه عنه:
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
(سورة القمر)
وكان جري مركب نوح بإرادة الله، ولم يكن العلم قد تقدم ليصنع البشر المراكب الضخمة
التي تنبأ بها القرآن في قوله الحق:
وَلَهُ الْجَوَارِ
الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
(سورة الرحمن)
ونحن حين نقرؤها الآن نتعجب من قدرة القرآن على التنبؤ بما اخترعه البشر؛ فالقرآن
عالم بما يجد؛ لا بقهريات الاقتدار فقط؛ بل باختيارات البشر أيضاً. وقوله الحق:
.... وَتَرَى الْفُلْكَ
مَوَاخِرَ فِيهِ ....(14)
(سورة النحل)
والماخر هو الذي يشق حلزومه الماء، والحلزوم هو الصدر. ونجد من يصنعون المراكب
يجعلون المقدمة حادة لتكون رأس الحربة التي تشق المياه بخرير. وفي هذه الآية امتن
الحق سبحانه على عباده بثلاثة أمور: صيد السمك، واستخراج الحلي، وسير الفلك في
البحر؛ ثم يعطف عليهم ما يمكن أن يستجد؛ فيقول:
.....ِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ .... (14)
(سورة النحل)
وكأن البواخر وهي تشق الماء ويرى الإنسان الماء اللين، وهو يحمل الجسم الصلب
للباخرة فيجد فيه متعة، فضلاً عن أن هذه البواخر تحمل الإنسان من مكان إلي مكان.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله:
.....ِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (14)
(سورة النحل)
ولا يقال ذلك إلا في سرد نعمة آثارها واضحة ملحوظة تستحق الشكر من العقل العادي
والفطرة العادية، وشاء سبحانه أن يترك الشكر للبشر على تلك النعم، ولم يسخرهم
شاكرين.
ويقول سبحانه من بعد ذلك