وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ ... (38)
(سورة النحل)


سبحان الله!! كيف تقسمون بالله وأنتم لا تؤمنون به؟! وما مدلول كلمة الله عندكم؟ .. هذه علامة غباء عند الكفار ودليل على أن موضوع الإيمان غير واضح في عقولهم؛ لأن كلمة الله نفسها دليل على الإيمان به سبحانه، ولا توجد الكلمة في اللغة إلا بعد وجود ما تدل عليه أولاً .. فالتلفزيون مثلاً قبل أن يوجد لم يكن له اسم، ثم بعد أن وجد أوجدوا له اسماً.
أذن: توجد المعاني أولاً، ثم توضع للمعاني أسماء، فإذا رأيت اسماً يكون معناه قبله أم بعده؟ يكون قبله .. فإذا قالوا: الله غير موجود نقول لهم: كذبتم؛ لأن كلمة الله لفظ موجود في اللغة ولابد أن لها معنى سبق وجودها.
إذن: فالإيمان سابق للكفر .. وجاء الكفر منطقياً؛ لأن معنى الكفر: الستر .. والسؤال إذن: ماذا ستر؟ ستر الإيمان، ولا يستر إلا موجوداً، وبذلك نقول: إن الكفر دليل على الإيمان.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ....(38)
(سورة النحل)


أي: مبالغين في اليمين مؤكدينه، وما أقرب غباءهم هنا بما قالوه في آية أخرى:

{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم "32"}
(سورة الأنفال)


فليس هذا بكلام العقلاء. وكان ما أقسموا عليه بالله أنه:

.. لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ..(38)
(سورة النحل)


وهذا إنكار للبعث، كما سبق وأن قالوا:

{قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون "82"}
(سورة المؤمنون)


فيرد عليهم الحق سبحانه (بلى).
وهي أداة لنفي السابق عليها، وأهل اللغة يقولون: نفي النفي إثبات، إذاً "بلى" تنفي النفي قبلها وهو قولهم:

....لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ....(38)
(سورة النحل)


فيكون المعنى: بل يبعث الله من يموت.

..... وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ....(38)
(سورة النحل)


والوعد هو الإخبار بشيء لم يأت زمنه بعد، فإذا جاء وعد بحدث يأتي بعد ننظر فيمن وعد: أقادر على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟
فإن كان غير قادر على إنفاذ ما وعد به لأنه لا يضمن جميع الأسباب التي تعينه على إنفاذ وعده، قلنا له قل: إن شاء الله .. حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم تف بوعدك التمسنا لك عذراً، وحتى لا توصف ساعتها بالكذب، فقد نسب الأمر إلى مشيئة الله.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ لا يمنعنا أن نخطط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا .. خطط كما تحب، واعدد للمستقبل عدته، لكن أردف هذا بقولك: إن شاء الله؛ لأنك لا تملك جميع الأسباب التي تمكن من عمل ما تريد مستقبلاً، وقد قال الحق تبارك وتعالى:

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ...(24)
(سورة الكهف)


ونضرب لذلك مثلاً: هب أنك أردت أن تذهب غداً إلى فلان لتكلمه في أمر ما .. هل ضمنت لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجوداً غداً؟ وهل ضمنت ألا يتغير الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها، وعند الذهاب ألم بك عائق منعك من الذهاب. إذن: يجب أن نردف العمل في المستقبل بقولنا: إن شاء الله

أما إذا كان الوعد من الله تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما يعد به؛ لأنه لا قوة تستطيع أن تقف أمام مراده، ولا شيء يعجزه في الأرض ولا في السماء، كان الوعد منه سبحانه (حقاً) أن يوفيه.
ثم يقول الحق سبحانه:

.... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
(سورة النحل)


أي: لا يعلمون أن الله قادر على البعث، كما قال تعالى:
وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
(سورة السجدة)


وقال:

وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
(سورة الإسراء)


فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لأنهم لا يتصورون كيف يبعث الله الخلق من لدن آدم ـ عليه السلام ـ حتى تقوم الساعة .. ولكن لم تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى:

مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة...(28)
(سورة لقمان)


فالأمر ليس مزاولة يجمع الله سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة .. لا .. ليس في الأمر مزاولة أو معالجة تستغرق وقتاً.

إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
(سورة يس)


ونضرب لذلك مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ فنحن نرى مثل هذه الأوامر في عالم البشر عندما يأتي المعلم أو المدرب الذي يدرب الجنود نراه يعلم ويدرب أولاً، ثم إذا ما أراد تطبيق هذه الأوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعاً وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع، ويقفون على الهيئة المطلوبة، هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد؟! لا .. بل بكلمة واحدة تم له ما يريد.
وكأن انضباط المأمور وطاعته للأمر هو الأصل، كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لأمره سبحانه وتعالى .. هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء .. فليس في الأمر معالجة، لأن المعالجة أن يباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن، وليس البعث هكذا .. بل بالأمر الانضباطي: كن.
ولذلك يقول تعالى:

.... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
(سورة النحل)


نقول: الحمد لله أن هناك قليلاً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به. ثم يقول الحق سبحانه:

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)