وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) |
المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم
يتحملون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم فلا يمكن أن يضحي الإنسان
بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقيني. |
أما
هاجر: وهي تدل على المفاعلة من الجانبين، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان،
ولكن المفاعلة التي حدثت من القوم هي التي اضطرته للهجرة .. وهذا ما حدث في
هجرة المؤمنين من مكة؛ لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلا بعد أن تعرضوا
للاضطهاد والظلم، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل، فلو لم يتعرضوا لهم
ويظلموهم لما هاجروا. أخرج سعيد بن منصور من قول ابن مسعود ان رجلا هاجر ليتزوج امرأة يقال لها ام قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس (اورده ابن حجر فى فتح البارى)
.
أي: بيعة رابحة.
ويقول له عمر ـ رضي الله عنه: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه".
|
فإن كان
المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونحلهم وننزلهم منزلة
احسن من التي كانوا فيها، فقد كانوا مضطهدين في مكة، فأصبحوا آمنين في المدينة، وإن
كانوا تركوا بلدهم فسوف نمهد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج الله، ويجنون خير
الدنيا كلها، ثم بعد ذلك نرجعهم إلى بلدهم سادة أعزة بعد أن تكون مكة بلداً لله
خالصة من عبادة الأوثان والأصنام .. هذه هي الحسنة في الدنيا.
ثم يقول تعالى:
.... وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ....(41)
(سورة النحل)
ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجلات للعمل، ولكن حسنات
الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال، إما أن تفارقها، وإما أن تفارقك، وقد أنجز الله
وعده للمؤمنين في الدنيا، فعادوا منتصرين إلى مكة، بل دانت لهم الجزيرة العربية
كلها بل العالم كله، وانساحوا في الشرق في فارس، وفي الغرب في الرومان، وفي نصف قرن
كانوا سادة العالم أجمع.
وإن كانت هذه هي حسنة الدنيا المعجلة، فهناك حسنة الآخرة المؤجلة:
....وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ
.....َ (41)
(سورة النحل)
أي: أن ما أعد لهم من نعيم الآخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا. ولذلك كان سيدنا عمر ـ
رضي الله عنه ـ إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من العطاء يقول له: "بارك الله
لك فيه .. هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة اكبر من هذا"أورد
هذا الأثر القرطبى فى الدر المنثور وعزاه لابن جرير الطبرى ولابن المنذر. فهذه
حسنة الدنيا.
....وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ.... (41)
(سورة النحل)
وساعة أن تسمع كلمة (اكبر) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير، بل مقابلها (كبير)
فتكون حسنة الدنيا التي بوأهم الله إياها هي (الكبيرة)، لكن ما ينتظرهم في الآخرة (اكبر).
وكذلك قد تكون صيغة افعل التفضيل أقل في المدح من غير افعل التفضيل .. فمن أسماء
الله الحسنى (الكبير) في حين أن الأكبر صفة من صفاته تعالى، وليس اسماً من أسمائه،
وفي شعار ندائنا لله نقول: الله اكبر ولا نقول: الله كبير .. ذلك لأن كبير ما عداه
يكون صغيراً .. إنما اكبر، ما عداه يكون كبيراً، فنقول في الأذان: الله اكبر لأن
أمور الدنيا في حق المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة.
فإياك أن تظن أن حركة الدنيا التي تتركها من أجل الصلاة أنها صغيرة، بل هي كبيرة
بما فيها من وسائل تعينك على طاعة الله، فبها تأكل وتشرب وتتقوى، وبها تجمع المال
لتسد به حاجتك، وتؤدي الزكاة إلى غير ذلك، ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة، وكانت
الصلاة والوقوف بين يدي الله اكبر.
ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ....(9)
(سورة الجمعة)
أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها، ثم قال:
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ .... (10)
(سورة الجمعة)
فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة؛ لأنها الوسيلة للدار الآخرة، والمزرعة التي نعد
فيها الزاد للقاء الله تعالى .. إذن: الدنيا أهم من أن تنسى من حيث هي معونة للآخرة،
ولكنها أتفه من أن تكون غاية في حد ذاتها. ثم يقول الحق سبحانه:
.... لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(سورة النحل)
الخطاب هنا عن من؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلاثة أشياء:
يمكن أن يراد به الكافرون .. ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء
المؤمنين لآثروه على الكفر.
ويمكن أن يراد به المهاجرون .. ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل
الخير.
وأخيراً قد يراد به المؤمن الذي لم يهاجر .. ويكون المعنى: لو كان يعلم نتيجة
الهجرة لسارع إليها.
وهذه الأوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الأداء وبلاغة القرآن
الكريم، وهذا ما يسمونه تربيب الفوائد. ثم يقول الحق سبحانه
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)