وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) |
لو
نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط، هو
أننا عبيد لله .. نحن سواسية في هذه فقط، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه،
تختلف ألواننا، تختلف أجسامنا .. صورنا .. مواهبنا .. أرزاقنا. |
البعض يفهم
أن الفقير مسخر للغني، لكن الحقيقة أن كلاً منهما مسخر للآخر .. فالفقير مسخر للغني
حينما يعمل له العمل، والغني مسخر للفقير حينما يعطي له أجره .. ولذلك فالشاعر
العربي يقول:
الناس للناس من بدوٍ وحاضرة بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم
ونضرب هنا مثلاً بأخس الحرف في عرف الناس ـ وإن ك أنت الحرف كلها شريفة، وليس فيها
خسة طالما يقوت الإنسان منها نفسه وعياله من الحلال .. فالخسة في العاطل الأخرق
الذي يتقن عملاً.
هذا العامل البسيط ماسح الأحذية ينظر إليه الناس على أنهم افضل منه، وأنه أقل منهم،
ولو نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء
والمهندسين والأغنياء يعملون له هذه العلبة، وهو فاضل عليهم جميعاً حينما يشتري
علبة الورنيش هذه .. لكن الناس لا ينظرون إلى تسخير كل هؤلاء لهذا العامل البسيط.
فقوله تعالى:
.... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا سُخْرِيًّا....(32)
(سورة الزخرف)
من منا يسخر الآخر؟! كل منا مسخر للآخر، أنت مسخر لي فيما تتقنه، وأنا مسخر لك فيما
أتقنه .. هذه حكمة الله في خلقه ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع.
وربنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا .. يعني هذا لكذا وهذا لكذا ..
لا .. الذي يرضى بقدر الله فيما يناسبه من عمل مهما كان حقيراً في نظر الناس، ثم
يتقن العمل ويجتهد فيه ويبذل فيه وسعه يقول له الحق سبحانه: مادمت رضيت بقدري في
هذا العمل لأرفعنك به رفعة يتعجب لها الخلق ..
وفعلاً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه: كان شيالاً .. كان أجيراً .. نعم كان
.. لكنه رضى بما قسم الله وأتقن وأجاد، فعوضه الله ورفعه وأعلى مكانته.
ولذلك يقولون: من عمل بإخلاص في أي عمل عشر سنين يسيده الله بقية عمره، ومن عمل
بإخلاص عشرين سنة يسيد الله أبناءه، ومن عمل ثلاثين سنة سيد الله أحفاده .. لا شيء
يضيع عند الله سبحانه.
فليس فينا أعلى وأدنى، وإياك أن تظن أنك أعلى من الناس، نحن سواسية، ولكن منا من
يتقن عمله، ومنا من لا يتقن عمله؛ ولذلك قالوا: قيمة كل امرئ ما يحسنه.
ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا، وسوف تجد أن
الحق سبحانه عادل في تقسيم المواهب على الناس.
وقد ذكرنا أنك لو أجريت معادلة بين الناس لوجدت مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل
إنسان، بمعنى أنك لو أخذت مثلاً: الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة وراحة
البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة .. الخ لوجدت نصيب كل منا في نهاية المعادلة
يساوي نصيب الآخر، فأنت تزيد عني في القوة، وأنا أزيد عنك في العلم، وهكذا .. لأننا
جميعاً عبيد لله، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة.
وقوله تعالى:
....ِ فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ..... (71)
(سورة النحل)
فما ملكت أيمانهم: هم العبيد المماليك .. والمعنى: أننا لم نر أحداً منكم فضله الله
بالرزق، فأخذه ووزعه على عبيده ومماليكه، أبداً .. لم يحدث ذلك منكم .. والله
سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف، ولا يطلب منهم أن يوزعوا رزق الله على عبيدهم،
ولكن في الآية إقامة للحجة عليهم، واستدلال على سوء فعلهم مع الله سبحانه وتعالى.عن
ابن عباس ان هذه الآية نزلت فى نصارى نجران حين قالوا :عيسى ابن الله ..فقال الله
لهم "....ِ فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ..... (71)
النحل .قال القرطبى فى تفسيره "اى :لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى
يكون المولى والعبد فى المال شرعا سواء .فكيف ترضون لى ما لا ترضون لأنفسكم
.فتجعلون لى ولدا من عبيدى.
وكأن القرآن يقول لهم: إذا كان الله قد فضل بعضكم في الرزق، فهل منكم من تطوع برزق
الله له، ووزعه على عبيده؟ .. أبداً .. لم يحدث منكم هذا .. فكيف تأخذون حق الله في
العبودية والألوهية وحقه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح، وتجعلونه للأصنام
والأوثان؟! فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون .. فكيف تسمحون لأنفسكم أن تأخذوا حق
الله، وتعطوه للأصنام والأوثان؟
ويقول تعالى في آية أخرى:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ
أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا
رَزَقْنَاكُمْ ..... (28)
(سورة الروم)
أي: أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم، فكيف تفعلونه مع الله؟ فهذه لقطة: أنكم تعاملون
الله بغير ما تعاملون به أنفسكم:
..... فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ
.... (71)
(سورة النحل)
أي: أنكم سويتم بين الله سبحانه وبين أصنامكم، وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى
وتعبدونهم مع الله.
والحق سبحانه وإن رزقنا وفضلنا فقد حفظ لنا المال، وحفظ لنا الملكية، ولم يأمرنا أن
نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج
فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك:
مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ...
(245)
(سورة البقرة)
مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنعم، يطلب منك أن تقرضه، وكأنه سبحانه يحترم عملك
ومجهودك، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لك .. فيقول: أقرضني. لعلمه سبحانه
بمكانة المال في النفوس، وحرص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند المقترض،
فجعل القرض له سبحانه لتثق أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله:
......أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ (71)
(سورة النحل)
أي: بعد أن أنعم الله عليهم بالرزق، ولم يطلب منهم أن ينثروه على الغير، جحدوا هذه
النعمة، وأنكروا فضل الله، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان، وأخذوا حق الله في
العبودية والألوهية وأعطوه للأصنام والأوثان، وهذا عين الجحود وإنكار الجميل.
ثم يقول الحق سبحانه:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)