وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) |
والعبادة أن يطيع العابد معبوده، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب
النهي .. فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط؟ نقول: لا بل كل حركة
في الحياة تعين على عبادة فهي عبادة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،
ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل: |
نلاحظ في
هذه الآية نوعاً من الارتقاء في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام؛ ذلك لأن الحق
تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى:
..... لَا يَخْلُقُونَ
شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
(سورة النحل)
فنفى عنهم القدرة على الخلق، بل إنهم هم المخلوقون .. يذهب الواحد منهم فيعجبه حجر،
فيأخذه ويعمل فيه معوله حتى يصوره على صورة ما، ثم يتخذه إلهاً يعبده من دون الله.
فلما نفى عنهم القدرة على الخلق أراد هنا أن يترقى في الاستدلال، فنفى عنهم مجرد أن
يملكوا، فقد يملك الواحد ما لا يخلقه، فتقرر الآية هنا أنهم لا يملكون .. مجرد
الملك.
وقوله تعالى:
..... مِنَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ شَيْئًا .... (73)
(سورة النحل)
فالرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، ومن المصدرين يأتي رزق الله، وبذلك
يضمن لنا الحق تبارك وتعالى مقومات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الأرض.
فإن أردتم ترف الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم الله من مقومات الحياة لتصلوا إلى هذا
الترف. فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله الله لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات
الأرض.
ونوضح ذلك فنقول: هب أن عندك جبلاً من ذهب، أو جبلاً من فضة، وقد عضك الجوع في يوم
من الأيام .. هل تستطيع أن تأكل من الذهب أو الفضة؟
إنك الآن في حاجة لرغيف عيش، لا لجبل من ذهب أو فضة .. رغيف العيش الذي يحفظ لك
حياتك في هذا الموقف افضل من هذا كله. وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه الله
لعباده، أما المال فهو رزق غير مباشر، لا تستطيع أن تأكل منه أو تعيش عليه.
وكلمة (شيئاً) أي: أقل ما يقال له شيء، فالأصنام والأوثان لا تملك لهم رزقاً مهما
قل؛ لأنه قد يقول قائل: لا يملكون رزقاً يكفيهم .. لا .. بل لا يملكون شيئاً. ثم
يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى:
....وَلَا يَسْتَطِيعُونَ
(73)
(سورة النحل)
أي: لا يملكون لهم رزقاً في الحاضر، ولن يملكوا في المستقبل، وهذا يقطع الأمل
عندهم، فهم لا يملكون اليوم، ولن يملكوا غداً؛ ذلك لأن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها
وقتاً .. وأشياء معلقة يمكن أن تستأنف فيما بعد، فهذه الكلمة:
.... وَلَا يَسْتَطِيعُونَ
(73)
(سورة النحل)
حكم قاطع لا استئناف له فيما بعد. ولذلك؛ نجد هؤلاء الذين يحبون أن يجدوا في القرآن
مأخذاً يجادلون في قوله تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ
مَا أَعْبُدُ (5)
(سورة الكافرون)
فهؤلاء يرون في السورة تكراراً يتنافى وبلاغة القرآن الكريم .. نقول: ليس في السورة
تكرار لو تأملتم .. ففي السورة قطع علاقات على سبيل التأبيد والاستمرار، فالحق
سبحانه يقول:
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
(6)
(سورة الكافرون)
في الحاضر، وفي المستقبل، وإلى يوم القيامة. فقوله:
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
(2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
(سورة الكافرون)
وهذا قطع علاقات في الوقت الحاضر .. ولكن من يدرينا لعلنا نستأنف علاقات أخرى فيما
بعد .. فجاء قوله تعالى:
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
(سورة الكافرون)
لا للتكرار، ولكن لقطع الأمل في إعادة العلاقات في المستقبل، فالقضية ـ إذن ـ
منتهية من الآن على سبيل القطع. كذلك المعنى في قوله تعالى:
....وَلَا يَسْتَطِيعُونَ
(73)
(سورة النحل)
أي: لا يستطيعون الآن، ولا في المستقبل. ثم يقول الحق سبحانه
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)