فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) |
الأمثال: جمع مثل، وهو الند والنظير. وفي الآية نهي عن أن نشبه الله سبحانه
بشيء آخر؛ لأن الحق تبارك وتعالى واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في
أفعاله .. إياك أن تقول عن ذات: إنها تشبه ذاته سبحانه، أو صفات تشبه صفاته
سبحانه، فإن وجدت صفة لله تعالى يوجد مثلها في البشر فاعلم أنها على مقياس.
|
وبعد أن
وقفت على أوصاف هذا المصباح، وأنه يوضع في كوة صغيرة، بالله عليك هل يمكن وجود نقطة
مظلمة في هذه الكوة؟
إذن: فهذا مثل ليس لنوره سبحانه .. فنوره لا يدرك، وإنما هو مثل لتنويره للكون،
الذي هو كالكوة والطاقة في هذا المثل .. فمعنى قوله تعالى:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ..... (35)
(سورة النور)
أي: منورهما، فكما أنه لا يعقل وجود نقطة مظلمة في هذه الكوة، فكذلك نوره سبحانه
وتنويره للكون .. وهذا هو النور الحسي الذي أمد الله به الكون.
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي ينزل على عباد الله الصالحين تجلياتٍ
نورانية، وفيوضاتٍ ربانية نتلقاها في بيوت الله:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ
أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ .... (37)
(سورة النور)
وهكذا نجمع بين النور الحسي والنور المعنوي صلى الله عليه وسلم. ولذلك، فأبو تمام
حينما أراد أن يمدح الخليفة شبهه بمشاهير العرب في الشجاعة والكرم والحلم والذكاء،
فقال:
إقدام عمـر في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
فاعترض على هذا التشبيه أحد حساد أبي تمام، وقال له: كيف تشبه الخليفة بأجلاف العرب؟
ففي جيشه ألف واحد كعمرو، ومن خزنته ألف واحد كحاتم .. ولكن يخرج أبو تمام من هذا
المأزق، ويفلت من هذا الفخ الذي نصبه له حاسده، قال علي البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقـل لنوره مثلاً مـن المشـكاة والنـبراس
والحق سبحانه وتعالى وإن نهانا نحن أن نضرب له مثلاً لقلة علمنا، فهو سبحانه القادر
على ضرب الأمثال حتى بأقل المخلوقات وأتفهها في نظرنا .. فيقول تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا.....(26)
(سورة البقرة)
فلا تستقل أمر هذه البعوضة، ولا تستحقر أن يجعلها الله مثلاً؛ لأنه سبحانه لا يستحي
أن يضرب بها المثل؛ لأن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك، وفي أضخم
الحيوانات مثل الفيل والجمل؛ ولأن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى منك، وقد
تعجزك أنت على قوتك وحيلتك وجبروتك.
يقول تعالى:
.....ُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
(73)
(سورة الحج)
بالله عليك، هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أن تسترد من الذبابة ما أخذته من طعامك؟
هل تقدر على هذه العملية؟
إذن: حينما يضرب الله لك مثلاً يجب أن تحترم ضرب الله للمثل، وأن تبحث فيما وراء
المثل من الحكمة .. وأنه سبحانه جاء بهذا المثل لهذا المخلوق الحقير في نظرك ليوضح
لك قضية غامضة ينبهك إليها.
ولأهمية ضرب المثل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ليقربوا المعنى من الأفهام،
فقد يقف الشاعر أمام قضية معقدة لا يدركها إلا العقلاء، ويريد الشاعر الوصول بها
إلى أفهام العامة .. مثل قضية الحاسد الذي يظهر بحسده مزايا محسوده ومكارمه، فقد
يتهم البريء بتهمة ظلماً، فتكون سبباً في رفعته بين قومه.
أخذ الشاعر العربي هذا المعنى، وصاغه شعراً، وضرب له مثلاً توضيحياً، فقال:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت لولا اشتعال النار فيما جاورت أتاح لها لسان حسود ما
كان يعرف طيب عرف العود
فانظر كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي، فقد يكون لديك
فضيلة مكتومة مغمورة لا يعرفها أحد، حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويشوه صورتك، فإذا
بالحقيقة تتكشف للجميع ويظهر ما عندك من مواهب، وما لديك من فضائل .. وما أشبه ذلك
بالعود طيب الرائحة الذي لا نشم رائحته إلا إذا حرقناه.
وقد كان سبب هذا المثل الشعري أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لآخر على أحد بيوت
البلدة وبها عجوز مقعدة في حاجة إلى مساعدة، فكان يساعدها بما يستطيع، وكان بجوارها
منزل إحدى الجميلات التي قد تكون مطمعاً .. فاستغل أحد الحساد هذه الجيرة، واتهم
الرجل الصالح بأنه يذهب إلى هذه الحسناء .. وفعلاً تتبعه الناس، فإذا به يذهب لبيت
العجوز المقعدة .. ومن هنا عرف الناس عنه فضيلة لم يكن يعرفها أحد.
وقد رأينا على مر التاريخ من اتهموا ظلماً، وقيل في حقهم ما يندي له الجبين .. ثم
أنصفهم القضاء العادل، وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم، ولولا ما تعرضوا له من
اتهام ما عرفنا مزاياهم ومكارمهم.
وقوله تعالى:
..... إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
(سورة النحل)
وهذه علة النهي عن ضرب الأمثال لأننا لا نعلم، أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب لنا
الأمثال؛ لأنه سبحانه يعلم، ويأتي بالمثل في محله. وبعد أن هيأنا ربنا سبحانه لتلقي
الأمثال، وأعد أذهاننا لاستقبال الأمثال منه سبحانه .. أتى بهذا المثل.
فيقول الحق سبحانه
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)