قوله:
وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا .... (80)
(سورة النحل)
كلمة سكن مأخوذة من السكون، والسكون ضد الحركة، فالبيت نسميه سكناً؛ لأن
الإنسان يلجأ إليه ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت، إذن: في الخارج
حركة، وفي البيت سكن. والسكن قد يكون مادياً كالبيت وهو سكن القالب، وقد
يكون معنوياً، كما قال تعالى في حق الأزواج.
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا......(21)
(سورة الروم)
فالزوجة سكن معنوي لزوجها، وهذا يسمونه سكن القلب. فإن قال قائل:
|
حتى في البلاد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في
أماكن خاصة بهم لا يذوبون في غيرهم، وهكذا سكنوا الأرض ولم تحدد
لهم بلد.
أما النوع الثاني من السكن، وهو السكن المعنوي أو سكن القلب، فهو
سكن الزوج إلى زوجته الصالحة التي تخفف عنه عناء الحياة وهمومها،
تبتسم في وجهه إن كان مسروراً وتهدئ من غضبه إن كان مغضباً، تحتويه
بما لديها من حب وحنان وإخلاص .. هذا هو السكن المعنوي، سكن القلب.
وقوله:
.... وَمِنْ
أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا
إِلَى حِينٍ (80)
(سورة النحل)
الأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والشعر للماعز .. فما الفرق بين
هذه الثلاث في الاستعمال؟
يستعمل الناس كلاً من الصوف والوبر؛ لأن الشعيرات فيها دقيقة جداً
يمكن ندفها وغزلها والانتفاع بها في الفرش والأبسطة والألحفة
والملابس وغيرها مما يحتاجه الناس.
أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة لا يمكن ندفعها أو غزلها فلا
يمكن الانتفاع به في هذه المنسوجات، وقوله تعالى:
.....
أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
(سورة النحل)
الأثاث: هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالأبسطة
والمفارش والملابس والستائر.
والمتاع: هو ما يستمتع وينتفع به .. والفرق بينهما أن الأثاث قد
يكون ثابتاً لا يتغير كثيراً، أما المتاع فقد يتغير حسب الحاجة.
فأنت مثلاً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث،
ملون مثلاً، لكن قلما تغير الثلاجة أو الغسالة مثلاً. وقوله:
..... إِلَى
حِينٍ (80)
(سورة النحل)
لأن الإنسان قد يغتر حين يستوفي متطلبات حياته، وقد تلهيه هذه
النعم عن مطلوب المنعم سبحانه، فينشغل بالنعمة التي هو فيها عن
المنعم الذي أنعم عليه بها .. فتأتي هذه الآية محذرة.
إياك أن تغتر بالمتاع والأثاث؛ لأنها متاع إلى حين .. متاع موقوت
لا يدوم، ومهما استوفيت حظك منها في الدنيا فإنها صائرة إلى أمرين:
إما أن تفوتها بالموت، وإما أن تفوتك بالفقر والحاجة .. إذن: هي
ذاهبة ذاهبة .. فتذكروا دائماً قوله تعالى:
.... إِلَى
حِينٍ (80)
(سورة النحل)
فمتاع النعمة موقوت، لكن متاع المنعم سبحانه خالد. ثم يقول الحق
سبحانه |
.....مِنْ بُيُوتِكُمْ
....(80)
(سورة النحل)
يعني: نحن الذين صنعناها وأقمناها. فكيف جعلها الله لنا؟.
نقول: وأنت كيف صنعتها؟ ومم بنيتها؟ صنعتها من غاب أو خشب، أو بنيتها من
طين أو طوب .. كل هذه المواد من مادة الأرض من عطاء الله لك، وكذلك العقل
الذي يفكر ويرسم، والقوة التي تبني وتشيد كلها من الله.
إذن: (جعل لكم) إما أن يكون جعلاً مباشراً، وإما أن يكون غير مباشر ..
فالله سبحانه جعل لنا هذه المواد .. هذا جعل مباشر، وأعاننا وقوانا على
البناء .. هذا جعل غير مباشر. لكن في أي الأماكن تبني البيوت؟
البيوت لا تبنى إلا في أماكن الاستقرار، التي تتوفر لها مقومات الحياة ..
فقبل أن ننظم مدينة سكنية نبحث أولاً عن مقومات الاستقرار فيها من مأكل
ومشرب ومرافق وخدمات ومياه وصرف .. إلى آخره.
فإن وجدت هذه المقومات فلا مانع من البناء هنا .. فإذا لم توجد المرافق في
الصحراء ومناطق البدو، هنا لا يناسبها البيوت والبناء الدائم، بل يناسبها:
..... وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ
وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ .....(80)
(سورة النحل)
فنرى أهل البدو يتخذون من الجلود بيوتاً مثل الخيمة والفسطاط .. حيث نراهم
كثيري التنقل يبتغون مواطن الكلأ والعشب، ويرحلون طلباً للمرعى والماء،
وهكذا حياتهم دائمة التنقل من مكان لآخر .. فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف
أو من وبر خفيف الحمل، يضعونه أينما حطوا رحالهم، ويرفعونه أينما ساروا ..
والظعن هو التنقل من مكان لآخر.
إذن: كلمة (سكن) تفيد الاستقرار، وتوفر كل مقومات الحياة؛ ولذلك فالحق
سبحانه وتعالى يقول لآدم:
.....
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
.....(35)
(سورة البقرة)
أي: المكان الذي فيه راحتكم، وفي نعيمكم، فحدد له مكان إقامة وسكن .. ومكان
الإقامة هذا قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً، مثل لو قلت: اسكن الإسكندرية
.. هذا سكن عام، فلو أردت السكن الحقيقي الخاص بك لقلت: اسكن في شارع كذا،
وفي عمارة رقم كذا، وفي شقة رقم كذا، وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة هذه.
إذن: هذا سكن خاص بك .. سكنك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة
والخصوصية، فالسكن يحتاج إلى استقرار ذاتي لا يشاركك فيه أحد؛ ولذلك نرى
بعض سكان العمارات يشكون من الإزعاج والضوضاء، ويتمنون أن يعيشوا في بيوت
مستقلة تحقق لهم الراحة الكافية التي لا يضايقهم فيها أحد.
إذن: حينما ننظر إلى السكون .. إلى السكن، نحتاج المكان الضيق الذي يحقق لن
الخصوصية التامة التي تصل إلى حجرة مجرد حجرة، ولكنها تعني السكن الحقيقي
الخاص بي، وقد تصل الخصوصية أن نجعل لكل ولد من الأولاد سريراً خاصاً به في
نفس الحجرة.
فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا الإنسان على العكس يطلب السعة؛
لأن الحركة تقتضي السعة في المكان، فمن كان عنده مزرعة يطلب عزبة، ومن كان
عنده عزبة يتمنى ثانية وثالثة وهكذا لأن حركة الحياة تحتاج مجالاً واسعاً
فسيحاً.
هذا عن النوع الأول، وهو السكن المادي سكن القالب، وهو من أعظم نعم الله
على عباده .. أن يكون لهم سكن يأوون إليه، ويرتاحون فيه من عناء وحركة
الحياة.
ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يعذب بني إسرائيل، أشاع سكنهم في الأرض
كلها، وحرمهم من نعمة السكن الحقيقي الخاص، فقال تعالى:
{وَقُلْنَا
مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ...... (104)
(سورة الإسراء)
فالأرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس .. فليس لهم بلد تجمعهم، بل
بددهم الله في الأرض ولم يجعل لهم وطناً، كما قال في آية أخرى:
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَمًا ...... (168)
(سورة الأعراف) |