وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) |
الحق
تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد
والأيمان، ولا يوفون بها، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريطة بنت عامر،
وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر، ثم تأمرهن بنقض ما
غزلنه من الظهر حتى العصرأورده
القرطبى فى تفسيره
، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة.
|
والحق ـ
تبارك وتعالى ـ بهذا المثل المشاهد يحذرنا من إخلاف العهد ونقضه؛ لأنه سبحانه يريد
أن يصون مصالح الخلق؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيمان التي تبرم بينهم،
فمن خان العهد أو نقض الأيمان لا يوثق فيه، ولا يطمأن إلى حركته في الحياة، ويسقطه
المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس.
وقوله:
...أَنْكَاثًا ..... (92)
(سورة النحل)
جمع نكث، وهو ما نقض وحل فتله من الغزل. وقوله:
....تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ..........(92)
(سورة النحل)
الدخل: أن تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغش والخداع، كأن تدخل
في الذهب عيار 24 قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار 18 قيراطاً، أو كأن تدخل في اللوز
مثلاً نوى المشمش على أنه منه. فكأن الأيمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها
صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغش، فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به.
وقوله:
..... أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ....(92)
(سورة النحل)
هذه هي العلة في أن نتخذ الأيمان دخلاً فيما بيننا، الأيمان الزائفة الخادعة؛ ذلك
لأن الذي باع نوى المشمش مثلاً على أنه لوز، فقد أربى أي: أخذ أزيد من حقه ونقص حق
الآخرين، فالعلة إذن في الخداع بالأيمان الطمع وطلب الزيادة على حساب الآخرين.
وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى، كأن تعاهد شخصاً على شيء ما، وأديت له بالعهود
والأيمان والمواثيق، ثم عن لك من هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالإغراء،
فنقضت العهد الأول لأن الثاني أربى منه وأزيد.
وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حذره، فمن يدريك لعله يفعل بك كما فعلت،
ويكال لك بنفس المكيال الذي كلت به لغيرك، فأحذر إذا تجرأت على خلق الله أن يجرئ
الله عليك من يسقيك من نفس الكأس.
وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة، فإياك أن تغش الناس، وتذكر أن لك عندهم مصالح، وفي
أيديهم لك حرف وصناعات، فإذا تجرأت عليهم جرأهم الله عليك؛ لأنه سبحانه يقول: أن
القيوم، أي: القائم على أمركم، فناموا أنتم فأنا لا أنام، فهذه مسألة يجب أن نلحظها
جيداً.
من تجرأ على الناس جرأهم الله عليه، ومن أخلص عمله وأتقنه قذف الله في قلوب الخلق
أن يتقنوا له حاجته. وقوله:
....إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ
اللَّهُ بِهِ .... (92)
(سورة النحل)
أي: يختبركم الله تعالى بهذا العهد، فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أن عقدتم
العهد، أفي نيتكم الوفاء، أم في نيتكم الغدر والخداع؟
وهب أنك تنوي الوفاء ثم عرض لك ما حال بينك وبينه، فالله سبحانه يعلم حقائق الأمور
ولا يخفى عليه شيء.
إذن: الابتلاء هنا لا يعني النكبة والبلاء، بل يعني مجرد الاختبار والنكبة والبلاء
على الذي يفشل في الاختبار، فالعبرة هنا بالنتيجة. وقوله:
.....وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
(سورة النحل)
فيوم القيامة تجتمع الخصوم، وتتكشف الحقائق، ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في
الدنيا، وهب أن إنساناً عمى على قضاء الأرض في أشياء، نقول له: إن عميت على قضاء
الأرض فلن تعمى على قضاء السماء، وانتظر يوماً نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل
أخرج مسلم فى صحيحه -كتاب الأقضيه من حدكيث ام سلمه رضى الله عنها قالت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "إنكم تختصمون الىّ ولعل لعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض
فاقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قطعت له من حق اخيه شيئا فلا ياخذه فانما اقطع له
به قطعة من النار".
ثم يقول الحق سبحانه
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)