ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)

(ذلك) أي: ما استحقوه من العذاب السابق.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ ....(107)
(سورة النحل)


استحب: أي آثر وتكلف الحب؛ لأن العاقل لو نظر إلى الدنيا بالنسبة لعمره فيها لوجدها قصيرة أحقر من أن تحب لذاتها، ولوجد الأغيار بها كثيرة تتقلب بأهلها فلا يدوم لها حال، ينظر فإذا الأحوال تتبدل من الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى السقم، ومن القوة إلى الضعف، فكيف إذن تستحب الدنيا على الآخرة؟!
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نعطي كلاً من الدنيا والآخر ما يستحقه من الحب، فنحب الدنيا دون مبالغة في حبها، نحبها على أنها مزرعة للآخرة، وإلا فكيف نطلب الجزاء والثواب من الله؟ لذلك نقول: إن الدنيا أهم من أن تنسى، وأتفه من أن تكون غاية، وقد قال الحق سبحانه:

....وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .... (77)
(سورة القصص)


ففهم البعض الآية على أنها دعوة للعمل للدنيا وأخذ الحظوظ منها، ولكن المتأمل لمعنى الآية يجد أن الحق سبحانه يجعل الدنيا شيئاً هيناً معرضاً للنسيان والإهمال، فيذكرنا بها، ويحثنا على أن نأخذ منها بنصيب، فأنا لا أقول لك: لا تنس الشيء الفلاني إلا إذا كنت أعلم أنه عرضة للنسيان، وهذا جانب من جوانب الوسطية والاعتدال في الإسلام.
ويكفينا وصف هذه الحياة بالدنيا، فليس هناك وصف أقل من هذا الوصف، والمقابل لها يقتضي أن نقول: العليا وهي الآخرة، نعم نحن لا ننكر قدر الحياة الدنيا ولا نبخسها حقها، ففيها الحياة والحس والحركة، وفيها العمل الصالح والذكرى الطيبة .. الخ.
ولكنها مع ذلك إلى زوال وفناء، في حين أن الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي لا يعتريها زوال، ولا يهددها موت، كما قال الحق سبحانه:

....وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
(سورة العنكبوت)


أي: الحياة الحقيقية التي يجب أن نحرص عليها ونحبها. ومن ذلك قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ .... (24)
(سورة الأنفال)


وقوله:

.... عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
(سورة النحل)


لقائل أن يقول: إن الآية تتحدث عن غير المؤمنين بالآخرة، فكيف يقال عنهم:

....اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ .... (107)
(سورة النحل)


نقول: من غير المؤمنين بالآخرة من قال الله فيهم:

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ....... (38)
(سورة النحل)


وأيضاً منهم من قال:

.... وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
(سورة الكهف)


إذن: من هؤلاء من يؤمن بالآخرة، ولكنه يفضل عليها الدنيا. قوله تعالى:

...وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
(سورة النحل)


أي: لا يهديهم هداية معونة وتوفيق. وسبق أن قلنا: إن الهداية نوعان: هداية دلالة، ويستوي فيها المؤمن والكافر، وهداية معونة خاصة بالمؤمن.
إذن: إذا نفيت الهداية، فالمراد هداية المعونة، فعدم هداية الله انصبت على الكافر لكونه كافراً، فكأن كفره سبق عدم هدايته، أو نقول: لكونه كافراً لم يهده الله.
ولذلك يحكم الله على هؤلاء بقوله سبحانه

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)