وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم عن الإيمان بالله والإيمان بصدق رسوله في البلاغ عنه، واستقبال منهج الله في الكتاب والسنة، وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر واللجاج والعناد لله وللرسول وللمنهج. أراد سبحانه أن يعطينا واقعاً ملموساً في الحياة لكل ذلك، فضرب لنا هذا المثل.
ومعنى المثل: أن يتشابه أمران تشابهاً تاماً في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول: هذا مثل هذا تماماً.
والهدف من ضرب الأمثال أن يوضح لك مجهولاً بمعلوم، فإذا كنت مثلاً لا تعرف شخصاً نتحدث عنه فيمكن أن نقول لك: هو مثل فلان ـ المعلوم لك ـ في الطول ومثل فلان في اللون .. الخ من الصور المعلومة لك، وبعد أن تجمع هذه الصور تكون صورة كاملة لهذا الشخص الذي لا تعرفه.
لذلك، فالشيء الذي لا مثيل له إياك أن تضرب له مثلاً، كما قال الحق سبحانه:

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ...(74)
(سورة النحل)


لأنه سبحانه لا مثيل له، ولا نظير له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وهو سبحانه الذي يضرب المثل لنفسه، أما نحن فلا نضرب المثل إلا للكائنات المخلوقة له سبحانه. لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالاً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا، وتوضح الأمر المعنوي بالأمر الحسي الملموس لنا.
ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً في الإنفاق في سبيل الله، وأن الله يضاعف النفقة، ويخلف على صاحبها أضعافاً مضاعفة، فانظر كيف صور لنا القرآن هذه المسألة:

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
(سورة البقرة)


وهكذا أوضح لنا المثل الأمر الغيبي المجهول بالأمر المحس المشاهد الذي يعلمه الجميع، حتى استقر هذا المجهول في الذهن، بل أصبح أمراً متيقناً شاخصاً أمامنا.
والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن الأمر الذي وضحه الحق سبحانه أقوى في العطاء من الأمر الذي أوضح به، فإن كانت هذه الأضعاف المضاعفة هي عطاء الأرض، وهي مخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى؟
وكلمة (ضرب) مأخوذة من ضرب العملة، حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة، ولخوف الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلاً بالنحاس، فكان النقاد أي: الخبراء في تمييز العملة يضربونها أي: يختمون عليها فتصير معتمدة موثوقاً بها، ونافذة وصالحة للتداول. كذلك إذا ضرب الله مثلاً لشيء مجهول بشيء معلوم استقر في الذهن واعتمد.
فقال تعالى في هذا المثل:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً .......(112)
(سورة النحل)


الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بشتى أنواع النعم فجحدها، ولم يشكره عليها، ولم يؤد حق الله فيها، واستعمل نعمة الله في معصيته فقد عرضها للزوال، وعرض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة، فقيد النعمة بشكرها وأداء حق الله فيها، لذلك قال الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله شديد النقم
ولكن، القرية التي ضربها الله لنا مثلاً هنا، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق؟ قد يراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة، أو غيرها من القرى، وعلى كل فتحديدها أمر لا فائدة منه، ولا يؤثر في الهدف من ضرب المثل بها.

قاله ابن عباس ومجاهد وقالت عائشه وحفصة رضى الله عنهما :فى المدينه (ذكره السيوطى فى الدر المنثور وقال القرطبى فى تفسيره "قيل انه مثل مضروب بأى قرية كانت على هذه الصفه من سائر القرى.
والقرية: اسم للبلد التي يكون بها قرى لمن يمر بها، أي: بلد استقرار. وهي اسم للمكان فإذا حدث عنها يراد المكين فيها، كما في قوله تعالى:

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ..... (82)
(سورة يوسف)


فالمراد: اسأل أهل القرية؛ لأن القرية كمكان لا تسأل .. هكذا قال علماء التفسير، على اعتبار أن في الآية مجازاً مرسلاً علاقته المحلية. ولكن مع تقدم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مدداً جديداً، كما قال سبحانه:

سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ..... (53)
(سورة فصلت)


والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين، فمثلاً يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يسجلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة.
ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة، وعلى هذا يمكن أن نقول: إن القرية يمكن أن تسأل، ويمكن أن تجيب، فلديها ذاكرة واعية تسجل وتحتفظ بما سجلته، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من بدء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو، مودعة فيه على شكل موجات لم تفقد ولم تضع.
وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيت فيه بحجر، سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال أهلها؛ لأن أهلها قد يكذبون، أما هي فلا تعرف الكذب. وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني

وقوله تعالى:

......كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً .......(112)
(سورة النحل)


آمنة: أي في مأمن من الإغارة عليها من خارجها، والأمن من أعظم نعم الله تعالى على البلاد والعباد. وقوله:

..... مُطْمَئِنَّةً .....(112)
(سورة النحل)


أي: لديها مقومات الحياة، فلا تحتاج إلى غيرها، فالحياة فيها مستقرة مريحة، والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغصات، والذي يجد فيه كل مقومات الحياة، فالأمن والطمأنينة هما سر سعادة الحياة واستقرارها. وحينما امتن الله تعالى على قريش قال:

 

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)


(سورة قريش)


فطالما شبعت البطن، وأمنت النفس استقرت بالإنسان الحياة.

<والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مثلى للحياة الدنيا، فيقول: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها">
أخرجه ابو نعيم فى الحليه وابن حبان من حديث ابى الدرداء رضى الله عنه واورده الهيثمى فى مجمع الزوائد وعزاه للطبرانى وقال "رجاله وثقوا على ضعف فى بعضهم"

ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها:

.......يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ...... (112)
(سورة النحل)


معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق، وهذا يرجح القول بأنها مكة؛ لأن الله تعالى قال عنها:

.....أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
(سورة القصص)


ومن تيسر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم، وبذلك تمت لهم النعمة واكتملت لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة، فماذا كان منهم؟ هل استقبلوها بشكر الله؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومرضاته؟ لا .. بل:

...... فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ .....(112)
(سورة النحل)


أي: جحدت بهذه النعم، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته، فكانت النتيجة:

.....فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
(سورة النحل)


وكأن في الآية تحذيراً من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله، واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء.

.....فَأَذَاقَهَا اللَّهُ ....(112)
(سورة النحل)


من الذوق، نقول: ذاق وتذوق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوقه. والذوق لا يتجاوز حلمات اللسان. إذن: الذوق خاص بطعم الأشياء، لكن الله سبحانه لم يقل: أذاقها طعم الجوع، بل قال:

..... لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ...... (112)
(سورة النحل)


فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباس يلبسه الإنسان، والمتأمل في الآية يطالع دقة التعبير القرآني، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف، كيف ذلك؟
الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن، فإذا لم يجد طعاماً عوض من المخزون في الجسم من شحوم، فإذا ما انتهت الشحوم تغذى الجسم على اللحم، ثم بدأ ينحت العظام، ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً، وعلى الجلد هزالاً وذبولاً، ثم ينكمش ويجف، وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد، وكأنه لباس يرتديه الجائع.
وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع، ولكن من هيئته وشحوب لونه وتغير بشرته، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض:

...... تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ..... (273)
(سورة البقرة)


وكذلك الخوف وإن كان موضعه القلب، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك، فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه. وهكذا جسد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية، وجعلها محسوسة تراها العيون، ولكنه أدخلها تحت حاسة التذوق؛ لأنها أقوى الحواس.
وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يوحي بشمولهما الجسم كله، كما يلفه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط، وليس الخوف في القلب فقط. ومن ذلك ما اشتهر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب، فنراهم يتحدثون عن القلوب، كما قال الشاعر:
خطرات ذكرك تستسيغ مودتي فأحس منها في الفؤاد دبيبا
فإذا ما زاد الحب وتسامى، وارتقت هذه المشاعر، تحول الحب من القلب، وسكن جميع الجوارح، وخالط كل الأعضاء، على حد قول الشاعر:
لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوبا
وقوله:

..... بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
(سورة النحل)


أي: أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنى عليهم، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله، وكفرهم بأنعمه، فحبسها الله عنهم، فهم الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدود والجحود والنكران، وتعرضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيتوا لقتله، حتى دعا عليهم

<قائلاً: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف">
الحديث اخرجه البخارى فى صحيحه واحمد فى مسنده من حديث ابى هريره رضى الله عنه.

فاستجاب الحق سبحانه لنبيه، وألبسهم لباس الجوع والخوف، حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه.
وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضجوا، وبلغ بهم الجهد والضنك منتهاه، فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله، فقال: هذا عملك برجال مكة، فما بال صبيانها ونسائها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب.
أما لباس الخوف فتمثل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحت لهم قوة وشوكة. ثم يقول الحق سبحانه:

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)