رأينا
كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة، وقد تمثلت هذه النعمة في كونها آمنة
مطمئنة، وهذه نعمة مادية يحفظ الله بها القالب الإنساني، لكنه ما يزال في
حاجة إلى ما يحفظ قيمه وأخلاقه.
وهذه هي نعمة النعم، وقد امتن الله عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولاً منهم،
فما فائدة النعم المادية في بلد مهزوزة القيم، منحلة الأخلاق، فجاءهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليقوم ما أعوج من سلوكهم، ويصلح ما فسد من قيمهم
ومبادئهم. وقوله:
....مِنْهُمْ ....
(113)
(سورة النحل)
أي: من جنسهم، وليس غريباً عنهم، وليس من مطلق العرب، بل من قريش أفضل
العرب وأوسطها. يقول تعالى:
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
(113)
(سورة النحل)
وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال، وبما
اشتهر به بينهم من الصدق والأمانة، ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا
أيضاً بالنعم القيمية متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله:
.... فَأَخَذَهُمُ
الْعَذَابُ .....(113)
(سورة النحل)
من الذي أخذهم؟
لم تقل الآية: أخذهم الله بالعذاب، بل: أخذهم العذاب، كأن العذاب نفسه
يشتاق لهم، وينقض عليهم، ويسارع لأخذهم، ففي الآية تشخيص يوحي بشدة عذابهم.
كما قال تعالى في آية أخرى:
يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
(سورة ق)
ثم يقول تعالى
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
|