وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) |
نلاحظ
أن هذا المعنى ورد في قوله تعالى: |
بما قبلها:
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ..... (125)
(سورة النحل)
الدعوة إلى منهج يلفت الإنسان ـ خليفة الله في أرضه ـ أن يلتزم بمنهج الله الذي
استخلفه، ووضع له هذا المنهج لينظم حركة حياته، والداعية يواجه هؤلاء الذين يفسدون
في الأرض، ويحققون لأنفسهم مصالح على حساب الغير، والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب
غيره لابد أن يكون له قوة وقدرة، بها يطغى ويستعلي ويظلم.
فإذا جاء منهج الله تعالى ليعدل حركة هؤلاء ويخرجهم مما ألفوه، وينزع منهم سلطان
الطغيان والظلم، ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به، فلابد أن يجادلوه ويصادموه
ويقفوا في وجهه، فقد جمع عليهم شدة النصح والإصلاح، وشدة ترك ما ألفوه.
فعلى الداعية ـ إذن ـ أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلهم بالتي هي احسن،
فإذا ما تعدى أمرهم إلى الاعتداء على الداعية، إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة
الطباع، فسوف نحتاج إلى أسلوب آخر، حيث لم يعد يجدي أسلوب الحكمة.
ولابد لنا أن نقف الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية، فضلاً عن الرجولة الإيمانية،
وأن يكون لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى، دون أن يكون
عندنا لدد في الخصومة، أو إسراف في العقوبة.
فجاء قوله تعالى:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ....(126)
(سورة النحل)
وفي الآية تحذير أن يزيد الرد على مثله، وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني
عادل يستوي أمامه الجميع، فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل لا يتعداه،
ولعل ذلك يلفتهم إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة الانتقام عنانها، بل هدأها
ودعاها إلى العفو والصفح، ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم.
وهذا التوجيه الإلهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى الله عليه
وسلم توجه إليه صلى الله عليه وسلم في تصرف خاص، لا يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه،
ولكن بمؤمن حبيب إلى رسول الله، وصاحب منزلة عظيمة عنده، إنه عمه وصاحبه حمزة بن
عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه.
فقد مثل به الكفار في أحد، وشقت هند بطنه، ولاكت كبده، فشق الأمر على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأثر في نفسه، وواجه هذا الموقف بعاطفتين: عاطفته الإيمانية،
وعاطفة الرحم والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره، ووقف إلى جواره، فقال في انفعاله
بهذه العاطفة:
"لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم"أورده
ابن كثير فى تفسيره وعزاه لمحمد بن اسحاق فى السيره. ولكن الحق سبحانه العادل الذي
أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هدأ من روعه، وعدل له هذه المسألة ولأمته من بعده،
فقال:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ .....(126)
(سورة النحل)
والمتأمل للأسلوب القرآني في هذه الآية يلحظ فيها دعوة إلى التحنن على الخصم
والرأفة به، فالمتحدث هو الله سبحانه، فكل حرف له معنى، فلا تأخذ الكلام على
إجماله، ولكن تأمل فيه وسوف تجد من وراء الحرف مراداً وأن له مطلوباً. لماذا قال
الحق سبحانه: (وإن) ولم يستخدم (إذا) مثلاً؟
إن عاقبتم: كأن المعنى: كان يحب ألا تعاقبوا.
أما (إذا) فتفيد التحقيق والتأكيد، والحق سبحانه يريد أن يحنن القلوب، ويضع رد
العقوبة بمثلها في أضيق نطاق، فهذه رحمة حتى من الأعداء، هذه الرحمة تحببهم في
الإسلام، وتدعوهم إليه، وبها يتحول هؤلاء الأعداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى
الله.
كما أن في قوله: (عاقبتم) دليل على أن رد العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد، كما قال
تعالى:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ ....(60)
(سورة الأنفال)
كأنه يقول: كونوا دائماً على استعداد، وفي حال قوة تمكنكم من الرد إذا اعتدى عليكم،
كما أن في وجود القوة والاستعداد ما يردع العدو ويرهبه، فلا يجرؤ على الاعتداء من
البداية، وبالقوة والاستعداد يحفظ التوازن في المجتمع، فالقوي لا يفكر أحد في
الاعتداء عليه.
وهذا ما نراه الآن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلح بأسلحة فاتكة.
وكلمة:
.... مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
....(126)
(سورة النحل)
نلاحظ أن الرد على الاعتداء يسمى عقوبة، لكن الاعتداء الأول لماذا نسميه أيضاً
عقوبة؟ قالوا: لأن هذه طريقة في التعبير تسمى "المشاكلة"، أي: جاءت الأفعال كلها
على شاكلة واحدة.
ومن ذلك قوله تعالى:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا ......(40)
(سورة الشورى)
لأن رد السيئة لا يسمى سيئة.
ولسائل في هذه القضية أن يسأل: طالما أن الإسلام يسعى في هذه المسألة إلى العفو،
فلماذا لم يقرره من البداية؟ وما فائدة الكلام عن العقوبة بالمثل؟
نقول: لأن المجتمع لا يكون سليم التكوين إلا إذا أمن كل إنسان فيه على نفسه وعرضه
وماله .. الخ. وهذا الأمن لا يتأتى إلا بقوة تحفظه، كما أن للمجتمع توازناً، هذا
التوازن في المجتمع لا يحفظ إلا بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات، وتضمن أن تكون
حركة الإنسان في المجتمع دون ظلم له.
كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم، فهدف الشارع الحكيم
أن يحد من الجريمة، ويمنع حدوثها، فلو علم القاتل أنه سيقتل ما تجرأ على جريمته،
ففي تشريع العقوبة رحمة بالمجتمع وحفظ لسلامته وأمنه.
ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة، فيقول: كيف تقتلون من يرتد عن دينكم؟ وأين حرية
العقيدة إذن؟
نقول: في تشريع قتل المرتد عن الإسلام تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين، بحيث لا
يدخله أحد إلا بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة، فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء
الحرية يدخل أو لا يدخل، لا يغصبه أحد، ولكن ليعلم أنه إذا دخل، فحكم الردة معلوم(عن
ابن عباس رضى الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من بدل دينه
فاقتلوه"اخرجه احمد فى مسنده والبخارى فى صحيحه - فتح البارى ،وابن ماجه فى سننه
وكذا الترمذى).
إذن: شرع الإسلام العقوبة ليحفظ للمجتمع توازنه، وليعمل عملية ردع حتى لا تقع
الجريمة من البداية، لكن إذا وقعت يلجأ إلى علاج آخر يجتث جذور الغل والأحقاد
والضغائن من المجتمع.
لذلك سبق أن قلنا عن عادة الأخذ بالثأر في صعيد مصر: إنه يظل في سلسلة من القتل
والثأر لا تنتهي، وتفزع المجتمع كله، حتى الآمنين الذين لا جريرة لهم، وتنمو
الأحقاد والكراهية بين العائلات في هذا الجو الشائك، حتى إذا ما تشجع واحد منهم،
فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى ولي القتيل، وألقى بنفسه بين يديه قائلاً: هاأنا بين
يديك وكفني معي، فاصنع بي ما شئت، وعندها تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أن يثأروا
منه، فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر التي لا تنتهي.
ثم يقول الحق سبحانه
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)