هذه
قضية معية الله لمن اتقاه، فمن اتقى الله فهو في جواره ومعيته، وإذا كنت في
معية ربك فمن يجرؤ أن يكيدك، أو يمكر بك؟
وفي رحلة الهجرة تتجلى معية الله تعالى وتتجسد لنا في الغار حينما أحاط به
الكفار، والصديق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه
لرآنا، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية: "يا أبا
بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما"متفق
عليه من حديث ابى بكر الصديق رضى الله عنه.
فما علاقة هذه الإجابة من رسول الله بما
قال أبو بكر؟
المعنى: مادام أن الله ثالثهما إذن فهما في معية الله، والله لا تدركه
الأبصار، فمن كان في معيته كذلك لا تدركه الأبصار. وقوله:
....اتَّقَوْا
....(128)
(سورة النحل)
التقوى في معناها العام: طاعة الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومن
استعمالاتها نقول: اتقوا الله، واتقوا النار، والمتأمل يجد معناها يلتقي في
نقطة واحدة.
فمعنى "اتق الله": اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وحاجزاً يحميك، وذلك
باتباع أمره واجتناب نهيه؛ لأن للحق سبحانه صفات رحمة، فهو: الرؤوف الرحيم
الغفور، وله صفات جبروت فهو: المنتقم الجبار العزيز، فاجعل لنفسك وقاية من
صفات الانتقام.
ونقول: اتقوا النار، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقاية، والوقاية من النار
لا تكون إلا بطاعة الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، إذن: المعنى واحد،
ولكن جاء مرة باللازم، ومرة بلازم اللازم. وقوله:
.... وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ (128)
(سورة النحل)
المحسن: هو الذي يلزم نفسه في عبادة الله بأكثر مما ألزمه الله، ومن جنس ما
ألزمه الله به، فإن كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة،
فالإحساس أن تزيدها ما تيسر لك من النوافل، وإن كان الصوم شهر رمضان،
فالإحسان أن تصوم من باقي الشهور كذا من الأيام، وكذلك في الزكاة، وغيرها
مما فرض الله.
<لذلك نجد أن الإحساس أعلى مراتب الدين، وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال:
"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك">
والآية الكريمة توحي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعية، وأن الذين هم
محسنون لهم جزاء ومعية، كل على حسب درجته؛ لأن الحق سبحانه يعطي من صفات
كمال لخلقه على مقدار معيتهم معه سبحانه، فالذي اكتفى بما فرض عليه، لا
يستوي ومن احسن وزاد، لابد أن يكون للثاني مزية وخصوصية.
وفي سورة الذاريات يقول تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
(سورة الذاريات)
لم يقل "مؤمنين"؛ لأن المؤمن يأتي بما فرض عليه فحسب، لكن ما وجه الإحسان
عندهم؟ يقول تعالى:
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
(18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(سورة الذاريات)
وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض الله عليهم. ويجب أن نتنبه هنا إلى أن
المراد من قوله تعالى:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(سورة الذاريات)
ليست الزكاة، بل هي الصدقة، لأنه في الزكاة قال سبحانه:
...حَقٌّ مَعْلُومٌ
(24)
(سورة المعارج) |