وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) |
وقد رفع
يوسف أبويه على العرش لأنه لم يحب التميز عنهم؛ وهذا سلوك يدل على المحبة
والتقدير والإكرام. والعرش هو سرير الملك الذي يدير منه الحاكم أمور الحكم. وهم
قد خروا سجداً لله من أجل جمع شمل العائلة، ولم يخروا سجداً ليوسف، بل خروا
سجداً لمن يخر سجوداً إليه، وهو الله. وللذين حاولوا نقاش أمر سجود آل يعقوب
ليوسف أقول: هل أنتم أكثر غيرة على الله منه سبحانه؟ |
نقول: إن
القصة منسجمة تماماً، وهناك فارق بين قصص التاريخ كتاريخ؛ وبين قصص يوضح المواقف
الهامة في التاريخ.
والمناسبة في هذه الآية هي اجتماع الأخوة والأب والخالة، ولا داعي لذكر ما ينغص هذا
اللقاء؛ خصوصاً؛ وأن يوسف قد قال من قبل:
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ
(92)
(سورة يوسف)
وسبق أن قال لهم بلطف من يلتمس لهم العذر بالجهل:
...
هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ
(89)
(سورة يوسف)
وهو هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يذكر إحسان الحق سبحانه له فيقول:
....................هَذَا
تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
.................(100)
(سورة يوسف)
ويثني على الله شاكراً إحسانه فيقول:
..........وَقَدْ
أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
..............(100)
(سورة يوسف)
وهو إحسان له في ذاته، ثم يذكر إحسان الله إلى بقية أهله:
....
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ
...................(100)
(سورة يوسف)
وكلمة "أحسن" ـ كما نعلم ـ مرة تتعدى بـ إلى، فتقول: "أحسن إليه"، ومرة تتعدى
بالباء، فنقول: "أحسن به"، وهو هنا في مجال "أحسن بي".
أي: أن الإحسان بسببه قد تعلق بكل ما اتصل به؛ فجعله حاكماً، وجاء بأهله من البدو؛
أما الإحسان إليه فيكون محصوراً في ذاته لا يتعداه.
وجعل الحق سبحانه الإحسان هنا قسمين: قسم لذاته؛ وقسم للغير، واعتبر مجيء الأهل من
البدو إحساناً إليه، لأن البدو قوم يعيشون على الفطرة والانعزالات الأسرية، ولا
توطن لهم في مكان ولا يضمهم مجتمع، وليس لهم بيوت مبنية يستقرون فيها، ولكنهم
يتبعون أرزاقهم من منابت الكلأ ومساقط المياه، ويحملون رحالهم إلى ظهر الجمال
متنقلين من مكان لآخر.
وتخلو حياتهم من نعم الحضارة. ففي الحضارة يحضر إليك كل ما تطلب، ولكن الحياة في
البدو تحتم أن يذهب الإنسان إلى حيث يجد الخير؛ ولذلك تستقر الحياة في الحضر عنها
في البادية.
ويعطينا الشاعر احمد شوقي ـ رحمة الله عليه ـ صورة تبين الفارق بين البدو والحضر،
حين صنع مناظرة بين واحدة تتعصب للبدو، وأخرى تتعصب للحضر. فقال:
فأنا من البيد يا ابن جريج ومن حالب الشاة في موضع مغنيكمو معبد والغريق هم يأكلون
فنون الطهاة ومن هذه العيشة الجافية ومن موقد النار في ناحية وقيتنا الضبع العاويه
ونحن نأكل ما طهت الماشية
فابن جريج يشكو السأم من حياة البادية، حيث لا يرى إلا المناظر المعادة من حلب لشاة،
أو إشعال نار، ولا يسمع كأهل الحضر صوت المغنين المشهورين في ذلك الزمن؛ بل يسمع
صوت الضباع العاوية، ولا يأكل مثل أهل الحضر ما قام بطهيه الطهاة؛ بل يأكل اللبن
وهو ما تقدمه لهم الماشية.
وترد ليلى المتعصبة للبادية:
قد اعتسفت هند يا ابن جريج فما البيد إلا ديار الكرام لها قبلة الشمس عند البزوغ
ونحن الرياحين ملء الفضاء ويقتلنا العشق والحاضرات وكانت على مهدها قاسيه ومنزلة
الذمم الواقيه وللحضر القبلة الثانية وهن الرياحين في آنيه يقـمـن مــن العــشق في
غامـيـه
وقولها "اعتسفت" يعني "ظلمت"، أي: أن هنداً ظلمت البيد يا ابن جريج، ثم جاءت بميزات
البدو؛ فأوضحت أن بنات البادية كالرياحين المزروعة في الفضاء الواسع، عكس بنات
الحضر التي تشبه الواحدة منهن الريحانه المزروعة في أصص الزرع، أو أي آنية أخرى. ثم
تأتي إلى القيم؛ فتفخر أن بنت البادية يقتلها العشق، ولا تنال ممن تعشق شيئاً؛
فتنسل وتموت، أما بنت الحضر؛ فصحتها تأتي على الحب.
وهنا في الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يشكر يوسف ما من به الله عليه، وعلى
أهله الذين جاء بهم سبحانه من البادية، ليعيشوا في مصر ذات الحضارة الواسعة؛ وبذلك
يكون قد ضخم الفرق بين ما كانوا يعيشون فيه من شظف العيش إلى حياة اللين والدعة.
ثم يلمس ما كان من أخوته تجاهه فيقول:
.........
مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي........
(100)
(سورة يوسف)
وهذا مس لطيف لما حدث، وقد نسبه يوسف للشيطان؛ وصوره على أنه "نزغ".
أي: أنه لم يكن أمراً مستقراً على درجة واحدة من السوء. أي: أن ما فعله الشيطان هو
مجرد وخزة تنبه إلى الشيء الضار فيندفع له الإنسان، وهي مأخوذة من المهماز الذي
يروض به مدرب الخيل أي حصان، فهو ينغزه بالمهماز نزغة خفيفة، فيستمع وينفذ ما أمره
به، فالنغز تنبيه لمهمة، ويختلف عن الطعن. والحق سبحانه ينبهنا إلى ما يفعله
الشيطان؛ فيقول لنا:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
.....(200)
(سورة الأعراف)
وكل منا يعلم أن الشيطان عدو له عداوة مسبقة، وحين تستعيذ بالله من الشيطان، فأنت
تكتسب حصانه من الشيطان. وسبحانه القائل:
......
إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
(201)
(سورة الأعراف)
أي: أن الإنسان حين يتذكر العداوة بينه وبين الشيطان؛ فعليه أن يشحن نفسه بالمناعة
الإيمانية ضد هذا النزغ. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقول يوسف:
....إِنَّ
رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(100)
(سورة يوسف)
فسبحانه هو المدير الذي لا تخفى عليه خافية أبداً، وكلمة "لطف" ضد كلمة "كثافة"
فاللطيف هو الذي له جرم دقيق، والشيء كلما لطف عنف؛ لأنه لا توجد عوائق تمنعه.
ولا شيء يعوق الله أبداً، وهو العليم بموقع وموضع كل شيء، فهو يجمع بين اللطف
والخبرة، فلطفه لا يقف أمامه أي شيء، ولا يوجد ما هو مستور عنه، ولا يقوم أمام
مراده شيء، وسبحانه خبير بمواضع الأشياء، وعلمه سبحانه مطلق، وهو حكيم يجري كل حدث
بمراد دقيق، ولا يضيف إليه أحد أي شيء، فهو صاحب الكمال المطلق. ويذكر الحق سبحانه
بعد ذلك مناجاة يوسف لله سبحانه: