رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) |
ونعلم أن
الربوبية تعني الخلق من عدم، والإمداد من عدم؛ والإقاتة لاستبقاء الحياة،
والتزاوج لاستباق النسل، وتسير كل هذه العمليات في تناسق كبير. فالحق سبحانه
أوجد من عدم، واستبقى الحياة الذاتية بالقوات، واستبقى الحياة النوعية بما أباح
من تزاوج وتكاثر. |
ومادام
سبحانه هو خالق كل شيء؛ فليس غريباً أن يعلمه سبحانه ما شاء، وكأن إيمان يوسف قد
وصل به إلى أن يعلم ما قاله الحق سبحانه:
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
(14)
(سورة الملك)
ونحن في حياتنا نجد الذي صنع جهازاً يستفيد منه غيره؛ يوضح مواصفات استعمال الجهاز
أو الأداة، حتى ولو كانت نورجاً أو محراثاً؛ وذلك ليضمن للجهاز الحركة السوية التي
يؤدي بها الجهاز عمله.
والواحد منا إن تعطلت منه السيارة يستدعي الميكانيكي الذي ينظر ما فيها؛ فإن كان
أميناً، فهو يشخص بدقة ما تحتاجه السيارة، ويصلحها، وإن كان غير أمين ستجده يفسد
الصالح، ويزيد من الأعمال التي لا تحتاجها السيارة.
وهكذا نرى أن كل صانع في مجاله يعلم أسرار صنعته، فما بالنا بالخالق الأعظم سبحانه
وتعالى؟
إنه خبير عليم بكل شيء. ولماذا قال يوسف عن الحق سبحانه:
.....
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
........
(101)
(سورة يوسف)
لأنه يعلم أن الحق سبحانه قد خلق الإنسان؛ والإنسان له بداية ونهاية، لا يعلمها أحد
غير الله سبحانه، فقد يموت الإنسان وعمره يوم، أو يموت في بطن أمه، أو بعد مائة سنة،
وتمر على الإنسان الأغيار.
أما السماوات والأرض فهي مخلوقات ثابتة، فالشمس لا تحتاج إلى قطعة غيار، ولم تقع،
وتعطي الدفء للأرض، وهي مرفوعة عن الأرض؛ لا تقع عليها بمشيئة الله. والحق سبحانه
هو القائل:
.....................
وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ
اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(65)
(سورة الحج)
واسمع قوله الحق:
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(57)
(سورة غافر)
فالإنسان يتغير ويموت؛ أما السماوات والأرض فثابتة إلى ما شاء الله. ويقول يوسف
عليه السلام مواصلاً المناجاة لله:
...............أَنْتَ
وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ
...............(101)
(سورة يوسف)
وصحيح أن الحق سبحانه ولي ليوسف في الدنيا، وقد نصره وقربه وأعانه؛ بدليل كل ما مر
به من عقبات، ويرجو يوسف ويدعو ألا يقتصر عطاء الله له في الدنيا الفانية، وأن
يثيبه أيضاً في الباقية، والآخرة. ومادام سبحانه وليه في الدنيا والآخرة؛ فيوسف
يدعوه:
.......................تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
(101)
(سورة يوسف)
وقوله:
........تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا
...............(101)
(سورة يوسف)
إنما بسبب أن يكون أهلاً لعطاء الله له في الآخرة؛ فقد أخذ يوسف عطاء الدنيا
واستمتع به، ومتع به، ومشى فيه بما يرضى الله. وعند تمني يوسف للوفاة وقف العلماء،
وقالوا: ما تمناها أحد إلا يوسف. فالإنسان إن كان موفقاً في الدنيا، تجده دائم
الطموح، وتواقاً إلى المزيد من الخير.
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قبل الإمارة،
حينما كانوا يجيئون له بثوب ناعم؛ كان يطلب الأكثر منه نعومة، وإذا جيء له بطعام
لين؛ كان يطلب الأكثر ليونة.
وحين صار خليفة؛ كانوا يأتونه بالثوب؛ فيطلب الأكثر خشونة وظن من حوله أنه لم يعد
منطقياً مع نفسه، ولم يفهموا أن له نفساً تواقة إلى الأفضل؛ تستشرف الأعلى دائماً،
فحينما تاق إلى الإمارة جاءته؛ وحين تاق إلى الخلافة جاءته، ولم يبق بعدها إلا
الجنة.
ونجد ميمون بن مهران وكان ملازماً له؛ رضى الله عنهما؛ دخل عليه مرة فوجده يسأل ربه
الموت. فقال: يا أمير المؤمنين، أتسأل ربك الموت وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً؛
فأحييت سنناً وأمت بدعاً؛ وبقاؤك خير للمسلمين؟
فقال عمر بن عبد العزيز: ألا أكون كالعبد الصالح حينما أتم الله عليه نعمته قال:
........................تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
(101)
(سورة يوسف)
وقوله:
.....تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا
.........(101)
(سورة يوسف)
مكونة من
شقين:
الشق الأول: طلب الموت.
والشق الثاني: أن يموت مسلماً.
وكلنا يتوفى دون أن يطلب، وعلى ذلك يكون الشق الأول غير مطلوب في ذاته؛ لأنه واقع
لا محالة، ويصبح المطلوب ـ إذن ـ هو الشق الثاني، وهو أن يتوفاه الله مسلماً؛ ولذلك
حين نأتي إلى القبور نقول: السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنا إن
شاء الله بكم لاحقون.
وإن قال سائل: ولماذا نقول إن شاء الله بكم لاحقون، رغم أننا سنموت حتماً؟
نقول: إن قولنا "إن شاء الله" سببه هو رغبتنا أن نلحق بهم كمؤمنين. وأيضاً قد يسأل
سائل: لماذا يقول نبي لربه:
................وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ
(101)
(سورة يوسف)
وهل هناك صالح يأتي إلى هذا العالم دون أن يهتدي بمنهج نبي مرسل؟
نقول: إن كلمة "الصالحين" تضم الأنبياء وغيرهم من الذين آمنوا برسالة السماء.
وهكذا انتهت قصة يوسف عليه السلام؛ ولذلك يتجه الحق سبحانه من بعد تلك النهاية إلى
المراد من القصة التي جاءت مكتملة في سورة كاملة، غير بقية قصص القرآن التي تتناثر
أي منها في لقطات متفرقة بمواقع مختلفة من القرآن الكريم.
وذلك باستثناء قصة نوح التي جاءت مكتملة أيضاً، لدرجة أن بعض السطحيين قالوا "إن
هذا تكرار للقصة في لقطات مختلفة" ودائماً أقول رداً على ذلك: إنه تأسيس للقطات؛ إن
اجتمعت جاءت القصة كاملة.
وشاء الحق سبحانه أن تأتي اللقطات متفرقة؛ لأن كل لقطة إنما جاءت لمناسبة ما، وكل
القصص القرآني قد جاء لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلال عمره
الرسالي الذي استمر ثلاثة وعشرين عاما تعرض لأحداث جسام. وكل لحظة كانت تحتاج
لتثبيت، فينزل الحق سبحانه ما يثبت به فؤاد رسوله صلى الله عليه وسلم فيوضح له في
موقع ما: لا تحزن؛ لأن من سبقك من الرسل حدث معهم كذا.
بل قد تجد في الواقعة الواحدة لقطتين، مثلما جاء في العداوة بين موسى وفرعون. قال
الحق سبحانه:
فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا
.......(8)
(سورة القصص)
وهنا تكون العداوة من طرف موسى. ويقول في نفس المسألة أيضاً:
.....يَأْخُذْهُ
عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ
...................(39)
(سورة طه)
وهنا تكون العداوة من جهتين؛ لأن العداوة تتفاعل حين تكون من جهتين، فلا يمكن أن
يستمر عداء من طرف واحد، وتقوم من أجل هذا العداء معركة، لكن حين تكون العداوة من
جهتين فهذا يطيل أمد المعركة.
والمثل الثاني هو قول الحق سبحانه في نفس قصة موسى؛ وهي لقطة متقدمة حدثت في الأيام
الأولى من حياة موسى، وقبل أن تلقيه أمه في اليم؛ فقد مهد الله لها الأمر. يقول
الحق سبحانه عن ذلك:
.....
فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي
..............(7)
(سورة القصص)
وهذا شحذ لهمتها قبل الحادث، وتنبيه لها من قبل أن يقع، ولحظة أن جاء الحادث نفسه
أوحى لها الحق سبحانه:
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ
بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ
..............................(39)
(سورة طه)
والذين قالوا: إن قصص القرآن جاء مبعثراً، قد نسوا أن قصة نوح جاءت في موقع واحد،
وجاءت سورة يوسف محبوكة من أول الرؤيا إلى تولي الملك، وجمع شمل العائلة.
ونزلت القصة في سورة واحدة بعد أن سألوا عنها؛ وهم يعلمون أن محمداً صلى الله عليه
وسلم لم يجلس إلى معلم، ولم يقرأ في كتاب، وتاريخه معروف بالنسبة لهم، وحين يأتي
لهم موضحاً أن الحق سبحانه قد أنزل عليه، فكذبوه؛ وادعوا أنه يسمع لقطة من هنا؛
ولقطة من هناك. حين سألوه أن يأتي بقصة يوسف جاء بها كاملة؛ من أولها إلى آخرها.
ويقول الحق سبحانه في نهاية القصة: