وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)

وهكذا نرى المصافي التي يمر بها البشر ليصلوا إلى الإيمان.
المصفى الأول: قوله تعالى:

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
(سورة يوسف)


أي: أن الكثير من الناس لن يصلوا إلى الإيمان، حتى ولو حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مؤمنين. وقلنا: إن مقابل "كثير" قد يكون "قليل"، وقد يكون "كثير"، وبعض المؤمنين قد يشوب إيمانهم شبهة من الشرك، صحيح أنهم مؤمنون بالإله الواحد، ولكن إيمانهم ليس يقينياً، بل إيمان متذبذب، ويشركون به غيره.
والمصفى الثاني: قوله تعالى:

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
(سورة يوسف)


ومثال هذا: كفار قريش الذين قال فيهم الحق سبحانه:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ........ (87)
(سورة الزخرف)


ويقول فيهم أيضاً:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .......... (25)
(سورة لقمان)


ورغم قولهم هذا إلا أنهم جعلوا شفعاء لهم عند الله، وقالوا: إن الملائكة بنات الله، وهكذا جعلوا لله شركاء. ومعهم كل من ادعى أن لله ابناً من أهل الكتاب.
وأيضاً مع هؤلاء يوجد بعض من المسلمين الذي يخصون قوماً أقوياء بالخضوع لهم خضوعاً لا يمكن أن يسمى في العرف مودة؛ لأنه تقرب ممتلئ بالذلة؛ لأنهم يعتقدون أن لهم تأثيراً في النفع والضر؛ وفي هذا لون من الشرك.
ويأتي الواحد من هؤلاء ليقول لمن يتقرب منه: أرجو أن تقضي لي الأمر الفلاني. ويرد صاحب النفوذ: اعتمد على الله، وإن شاء الله سيقضي الله لك حاجتك. لكن صاحب الطلب يتمادى في الذلة، ليقول: وأنا اعتمد عليك أيضاً، لتقضي لي هذه الحاجة.
أو يرد صاحب النفوذ ويقول: أنا سوف افعل لك الشيء الفلاني؛ والباقي على الله. وحين أسمع ذلك فأنا أتساءل: وماذا عن الذي ليس باقياً، أليس على الله أيضاً؟
وينثر الله حكماً في أشياء تمناها أصحابها؛ فقضيت؛ ثم تبين أن فيها شراً، وهناك أشياء تمناها أصحابها؛ فلم تقض؛ ثم تبين أن عدم قضائها كان فيه الخير كل الخير.
نجد الأثر يقول:
واطلبوا الأشياء بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بمقادير
وربما منعك هذا فكرهته، وكان المنع لك خيراً من قضائه لك، فإن المنع عين العطاء، ولذلك فعلى الإنسان أن يعرف دائماً أن الله هو الفاعل، وهو المسبب، وأن السبب شيء آخر. ودائماً أذكر بأننا حين نحج أو نعتمر نسعى بين الصفا والمروة لنتذكر ما فعلته سيدتنا هاجر التي سعت بين الصفا والمروة؛ لتطلب الماء لوليدها بعد استنفذت أسبابها؛ ثم وجدت الماء تحت رجل وليدها إسماعيل.
فقد أخذت هي بالأسباب، فجاء لها رب الأسباب بما سألت عنه. ولم يأت لها الحق سبحانه بالماء في جهة الصفا أو المروة؛ ليثبت لها القضية الأولى التي سألت عنها إبراهيم عليه السلام حين أنزلها في هذا المكان.
فقد قالت له: "ءأنزلتنا هنا برأيك؟ أم أن الله أمرك بهذا؟ قال: نعم أمرني ربي. قالت: إذن لا يضيعنا.
وقد سعت هي بحثاً عن الماء أخذاً بالأسباب، وعثرت على الماء بقدرة المسبب الأعلى. وقول الحق سبحانه:

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
(سورة يوسف)


يتطلب منا أن نعرف كيف يتسرب الشرك إلى الإيمان، ولنا أن نتساءل: مادام يوجد الإيمان؛ فمن أين تأتي لحظة الشرك؟
ويشرح الحق سبحانه لنا ذلك حين يقول:

) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)(سورة العنكبوت)

هم إذن قد آمنوا وهم في الفلك، وأخذوا يدعون الله حين واجهتم أزمة في البحر؛ لكنهم ما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى ظهر بينهم الشرك.
حين يسألهم السائل: ماذا حدث؟
فيجيبون: أنهم كانوا قد أخذوا حذرهم، واستعدوا بقوارب النجاة. ونسوا أن الله هو الذي أنقذهم فانطبق عليهم قول الحق سبحانه:

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
(سورة إبراهيم)


وفي حياتنا اليومية قد تذهب لتقضي حاجة لإنسان؛ وبعد أن يسهل لك الله قضاء تلك الحاجة؛ تلتفت فلا تجده، ولا يفكر في أن يوجه لك كلمة الشكر. وحين تلقاه يقول لك: كل ما طلبته منك وجدته مقضياً، لقد كلمت فلاناً فقضاها.
وهو يقول لك ذلك ليبعد عنك ما أسبغه الله عليك من فضل قضائك لحاجته؛ وذلك لأنه لحظة أن طلب منك مساعدته في قضاء تلك الحاجة تذلل وخضع، وبعد أن تنقضي يتصرف كفرعون ويتناسى.
ولا ينزعه من فرعنته إلا رؤياك؛ لأنه يعلم أنك صاحب جميل عليه، بل قد يريد بك الشر؛ رغم أنك أنت من أحسنت إليه، لماذا؟
لأن هذه هي طبيعة الإنسان.
يقول تعالى:

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)
(سورة العلق)


ولذلك يقول في المثل: "اتق شر من أحسنت إليه". وأنت تتقي شره، بأن تحذر أن تمن عليه بالإحسان؛ كي لا تنمي فيه غريزة الكره لك.
والناصح يحتسب أي مساعدة منه لغيره عند الله؛ فيأخذ جزاءه من خالقه لحظة أداء فعل الخير، ولا ينتظر شيئاً ممن فعل الخير له؛ لأنك لا تعلم ماذا فكر لحظة أن أديت له الخدمة، فحين يجد ترحيب الناس بك في الجهة التي تؤدي له الخدمة فيها؛ قد يتساءل: لماذا يحترمونك أكثر منه؟
وهو يسأل هذا السؤال لنفسه على الرغم من أنك متواجد معه في هذا المكان لتخدمه. ولذلك يقول العامة هذا المثل: "اعمل الخير وارمه في البحر"؛ لأن الله هو الذي يجازيك وليس البشر؛ فاجعل كل عملك موجهاً لله، وانس أنك فعلت معروفاً لأحد.
والمعروف المنكور هو أجدى أنواع المعروف عليك؛ لأن الذي يجازي عليه هو الله؛ وهو سبحانه من سيناولك أجره وثوابه بيده؛ ولذلك عليك أن تنسى من أحسنت إليه؛ كي يعوضك الله بالخير على ما فعلت.
ويقال في الأثر: إن موسى عليه السلام قال: يا رب، إني أسألك ألا يقال في ما ليس في. فأوضح له الله: يا موسى لم أصنعها لنفسي؛ فكيف أصنعها لك. ويعرض الحق سبحانه هذه المسألة في القرآن بشكل آخر فيقول سبحانه:

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
(سورة الزمر)


والإنسان لحظة أن يمسه الضر؛ فهو يدعو الربوبية المتكفلة بمصالحه: يا رب أنت الذي خلقتني، وأنت المتكفل بتربيتي؛ وأنا أتوكل عليك في مصالحي، فأنقذني مما أنا فيه. ومثل هذا الإنسان كمثل الربان الذي ينقذه الله بأعجوبة من العاصفة؛ لكنه بعد النجاة يحاول أن ينسب نجاة السفينة من الغرق لنفسه.
ولذلك أقول دائماً: احذروا أيها المؤمنون أن تنسوا المنعم المسبب في كل شيء، وإياكم أن تفتنوا بالأسباب؛ فتغفلوا عن المسبب؛ وهو سبحانه معطي الأسباب. وأقول ذلك حتى لا تقعوا في ظلم أنفسكم بالشرك بالله؛ فسبحانه القائل:

الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
(سورة الأنعام)


والظلم ـ كما نعلم ـ هو أن تعطي الحق لغيره صاحبه؛ فكيف يجرؤ أحد على أن يتجاهل فضل الله عليه؟ فيقع في الشرك الخفي، والظلم الأكبر هو الشرك. وسبحانه القائل:

..............إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
(سورة لقمان)


ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: