حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) |
وكلمة:
(سورة البقرة) |
ومادة "الكاف"،
و"الذال" و"الباء" منها "كذب"، و"كذب عليه" و"كذب". والكذب هو القول المخالف للواقع
والعاقل هو من يورد كلامه على ذهنه قبل أن ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبر؛ فينطق الكلام على عواهنه؛ ولا
يمرر الكلام على ذهنه؛ ولذلك يقال عنه "مخرف".
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا: إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب
هو ألا تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع.
ومن يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع؛ يقال عنه: إنه متعمد الكذب، ومن يقول
كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن يحسب
كذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخى الدقة ينقل الكلام منسوباً إلى من قاله له؛
فيقول "أخبرني فلان" فلا يعد كاذباً.
ولذلك أقول دائماً: يجب أن يفرق العلماء بين كذب المفتين، وكذب الخبر؛ وكذب المخبر.
فالخبر الكاذب مسئول عنه من تعمد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى من
قاله، فموقفه مختلف.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي: "وظنوا أنهم قد
كذبوا" أي: حدثهم غيرهم كذباً؛ وقراءة ثانية هي: "وظنوا أنهم قد كذبوا" وهي تعني:
أنهم قد ظنوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر هو كذب.
ولقائل أن يسأل: كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول: إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان؛ يعلم أن ما يؤكد صدق رسالته هو مجيء
النصر؛ وتمر عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه: "لقد كذب
علينا"؛ لأن الظن إخبار بالراجح.
ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى ـ معاذ الله ـ قد كذبهم وعده، ولكنهم
ظنوا أن النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن النصر لن يأتي.
أو: أنهم خافوا أن يكذبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه يعلم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه، ولا
يعرفه أحد، فسبحانه لا يعجل بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد. ويقول سبحانه:
...وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا
....(110)
(سورة يوسف)
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وقعه كوقع الماء على ذي الغلة الصادي،
ولنا أن نتخيل شوق العطشان لكوب الماء. وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً
للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول،
وأيضاً يتضاعف غم الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع
بأسه وعذابه على الكافرين به. ويقول سبحانه من بعد ذلك: