لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) |
ونلحظ أن
هذه الآية جاءت في سورة يوسف؛ أي: إن أردت قصة يوسف وإخوته؛ ففي السورة كل
القصة بمراميها وأهدافها وعظتها، أو المهم في كل قصص الأنبياء. |
ويضيف الحق
سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
....
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ
...
(111)
(سورة يوسف)
فالقرآن يصدق الكتب السابقة، ويفصل كل شيء؛ أي: يعطي كل جزئية من الأمر حكمها في
جزئية مناسبة لها. فهو ليس كلاماً مجملاً، بل يجري تفصيل كل حكم بما يناسب أي أمر
من أمور البشر.
وفي أعرافنا اليومية نقول: "فلان قام بشراء بذلة تفصيل". أي: أن مقاساتها مناسبة له
تماماً؛ ومحكمة عليه حين يرتديها.
وفي الأمور العقدية نجد ـ والعياذ بالله ـ من يقول: إنه لا يوجد إله على الإطلاق،
ويقابله من يقول: إن الآلهة متعددة؛ لأن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن
يخلقها إله واحد؛ فهناك إله للسماء، وإله للأرض؛ وإله للنبات؛ وإله للحيوان.
ونقول لهم: كيف يوجد إله يقدر على شيء، ويعجز عن شيء آخر؟
وإن قال هؤلاء: "إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها".
نرد عليهم: ليست تلك هي الألوهية أبداً، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ
وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(29)
(سورة الزمر)
وحين يكون الشركاء مختلفين؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضنك وعذاب؛ أما
الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف؛ لأنه يأتمر بأمر واحد؛ لذلك يحيا مرتاحاً.
ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
(91)
(سورة المؤمنون)
أما من يقول بأنه لا يوجد إله في الكون، فنقول له: وهل يعقل أن كل هذا الكون الدقيق
المحكم بلا صانع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يفصل هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في الكون،
ونجد القرآن يفصل لنا الأحكام؛ وينزل لكل مسألة حكماً مناسباً لها؛ فلا ينتقل حكم
من مجال إلى آخر.
وكذلك تفصيل الآيات، فهناك المحكم والمتشابه؛ والمثل هو قول الحق سبحانه.
...وَيُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ
....
(114)
(سورة آل عمران)
ويقول في موقع آخر:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
....(133)
(سورة آل عمران)
جاء مرة بقول "إلى"، ومرة بقول "في"؛ لأن كلاً منها مناسبة ومفصلة حسب موقعها.
فالمسارعة إلى المغفرة تعني أن من يسارع إليها موجود خارجها، وهي الغاية التي سيصل
إليها، أما من يسارع في الخيرات؛ فهو يحيا في الخير الآن، ونطلب منه أن يزيد في
الخير. وأيضاً نجد قوله الحق:
....
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(17)
(سورة لقمان)
ونجد قوله الحق:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(43)
(سورة الشورى)
وواحدة منهما وردت في المصائب التي لها غريم، والأخرى قد وردت في المصائب التي لا
غريم فيها؛ مثل المرض حيث لا غريم ولا خصومة.
أما إذا ضربني أحد؛ أو اعتدى على أحد أبنائي؛ فهو غريمي وتوجد خصومة؛ فوجوده أمامي
يهيج الشر في نفسي؛ وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية، وهذا هو تفصيل الكتاب. والحق
سبحانه يقول:
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ
.....
(3)
(سورة فصلت)
أي: أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلت في مناسبته ومثال هذا هو قوله سبحانه:
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
....
(31)
(سورة الإسراء)
وقوله الحق:
.....
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
....(151)
(سورة الأنعام)
وكل آية
تناسب موقعها، ومعناها متسق في داخلها، وتم تفصيلها بما يناسب ما جاءت له، فقوله:
.....
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ
......(151)
(سورة الأنعام)
يعني أن الفقر موجود، والإنسان منشغل برزقه عن رزق ابنه. أما قوله:
...خَشْيَةَ
إِمْلَاقٍ
.....
(31)
(سورة الإسراء)
أي: أن الفقر غير موجود، وهناك خوف أن يأتي إلى الإنسان؛ وهو خوف من أمر لم يطرأ
بعد.
وهكذا جد في القرآن تفصيل لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم، وهو تفصيل لكل
شيء ليس عندك؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس:
...وَأُوتِيَتْ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
...(23)
(سورة النمل)
وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا، بل هي قد أوتيت من كل شيء تملكه،
أو يمكن أن تملكه في الدنيا. وقول الحق سبحانه:
{وتفصيل كل شيءٍ .. "111"}
(سورة يوسف)
لا يعني أن نسأل مثلاً: "كم رغيفاً في كيلة القمح؟".
وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال؛ فجاء بخباز، وسأله هذا السؤال؛
فأجاب الخباز؛ فقال السائل: ولكنك لم تأت بالإجابة من القرآن؟ فقال الإمام محمد
عبده: لماذا لا تذكر قوله الحق:
....فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(43)
(سورة النحل)
وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يفرط في الكتاب من شيء. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة
بقوله:
....
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(111)
(سورة يوسف)
ونعلم أن الهدى هو الطريق المؤدي إلى الخير، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم
إلى قسمين:
القسم الأول: الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه.
والقسم الثاني: علاج لمن وقع في المعصية.
وإليك المثال: هب أن أناساً يعلمون الشر؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه؛ لأنه مرض، وهو
رحمة بمعنى ألا يقعوا في المرض بداية.
إذن: فهناك ملاحظتان يشيران إلى القسمين:
الملاحظة الأولى: أن المنهج القرآني قد نزل وقاية لمن لم يقع في المعصية.
والملاحظة الثانية: أن المنهج يتضمن العلاج لمن وقع في المعصية.
ويحدد الحق سبحانه من يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً، فيقول:
....وَهُدًى
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(111)
(سورة يوسف)
أي: هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون، ووضع للبشر قوانين صيانة
حياتهم، ومن المنطقي أن يسمع المؤمن كلامه وينفذه؛ لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن
تعود إليه في كل ما يصون حياتك، فإن كنت مؤمناً بالله؛ فخذ الهدى، وخذ الرحمة.
ونسأل الله أن نعطي هذا كله.