وهكذا
نعلم أن هناك فارقاً بين الشكوى للرب؛ وشكوى من قدر الرب. ولذلك يقول يعقوب
عليه السلام هنا:
......فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ
....
(18)
(سورة يوسف)
ويتبعها:
{والله المستعان على ما تصفون "18"}
(سورة يوسف)
كأن الصبر الجميل أمر شاق على النفس البشرية، ولم يكن يعقوب قادراً على أن يصدق
ما قاله أبناؤه له؛ فكيف يصدق الكذب؟ وكيف يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم؟
وهم أيضاً أبناؤه؛ لكنه كان غير قادر على أن يكشف لهم كذبهم.
والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قيل لرجل: إن ابنك قد قتل أخاك، فقال:
أقـول لنفـسي تأسـاء وتعـزية إحـدى يـدي أصـابتني ولم تـرد
كلاهما خـلف عـن فقد صـاحبه هـذا أخي حـين أدعـوه وذا ولدي
ومثل هذه المواقف تكون صعبة وتتطلب الشفقة؛ لأن من يمر بها يحتار بين أمر يتطلب
القسوة وموقف يتطلب الرحمة؛ وكيف يجمع إنسان بين الأمرين؟ إنها مسألة تعز على
خلق الله؛ ولابد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله؛ ولذلك علمنا صلى الله عليه
وسلم أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة؛ وحزبه أمر ما يعني: أن مواجهة هذا الأمر
تفوق أسباب الإنسان؛ فيلجأ إلى المسبب الأعلى؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام:
.....وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
(18)
(سورة يوسف)
وقوله: "تصفون" يعني: أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئاً لا يصادف الواقع،
مثل قوله تعالى:
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا
حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
.......
(116)
(سورة النحل)
أي: أن ألسنتكم نفسها تصف الكلام أنه كذب. والحق سبحانه يقول:
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
(180)
(سورة الصافات)
وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا؛ وكان مصير
كذبهم مفضوحاً.
....
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
(18)
(سورة يوسف)
وهكذا عبر يعقوب عليه السلام عن نفسه؛ فالجوارح قد تكون ساكنة؛ لكن القلب قد
يزدحم بالهموم ويفتقد السكون؛ لذلك لابد من الاستعانة بالله. وقد علمنا الحق
سبحانه أن نقول في فاتحة الكتاب:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ (4)
(سورة الفاتحة)
فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء
العبادة نفسها: لذلك تستعين بخالقك لتخلص في عبادتك. وبعد أن عرض الحق سبحانه
لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في الجب
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا
بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ
(19) |