والبلوغ
هو الوصول إلى الغاية، وقوله تعالى:
...بَلَغَ
أَشُدَّهُ
.....(22)
(سورة يوسف)
أي: وصل إلى غايته في النضج والاستواء؛ ومن كلمة "بلغ" أخذ مصطلح البلوغ؛
فتكليف الإنسان يبدأ فور أن يبلغ أشده؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنساناً مثله.
وحين يبلغ إنسان مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتلئ بالخيرات؛ فهذا البلوغ
إن لم يكن محروساً بالحكمة والعلم؛ ستتولد فيه رعونة؛ ولهذا فقد حرسه الحق
بالحكمة والعلم.
والحكم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ ومادام قد أعطاه
الله الحكم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ. وقد أعطاه الله العلم
الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل الرؤى، وغير ذلك من
العلم الذي سوف يظهر حين يولى على خزانة مصر.
إذن: فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم. ويذيل الحق سبحانه هذه
الآية بقوله:
.....
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
(سورة يوسف)
وكل إنسان يحس الإقامة لما هو فيه؛ يعطيه الله ثمرة هذا الحسن، والمثل: حين لا
يتأبى فقير على قدر الله أن جعله فقيراً ويحاول أن يحسن ويتقن ما يعمل، فيوضح
الله بحسن الجزاء: أنت قبلت قدري، وأحسنت عملك؛ فخذ الجزاء الطيب. وهذا حال
عظماء الدنيا كلهم. وهكذا نجد قول الحق سبحانه:
....
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
(سورة يوسف)
لا ينطبق على يوسف وحده؛ بل على كل من يحسن استقبال قدر الله؛ لأنه سبحانه ساعة
يأتي بحكم من الأحكام؛ وبعد ذلك يعمم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصاً
بل هو عام. وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها
أن كل محسن يعطيه الله الحكم والعلم. وقول الحق سبحانه:
....
بَلَغَ أَشُدَّهُ
......
(22)
(سورة يوسف)
يوحي لنا أن يوسف عليه السلام كان قد بلغ مرحلة الفتوة، وهنا بدأت متاعبه في
القصر، ففي طفولته نظرت إليه امرأة العزيز كطفل جميل؛ فلم يكن يملك ملامح
الرجولة التي تهيج أنوثتها.
أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغير، فقد بدأت تدرك مفاتنه؛ وأخذ خيالها يسرح
فيما هو أكثر من الإدراك، وهو التهاب الوجدان بالعاطفة المشبوبة، وما بعد
الإدراك والوجدان يأتي النزوع. ولو كانت محجوبة عنه؛ لما حدثت الغواية بالإدراك
والوجدان.
وهذا يعطينا علة غض البصر عن المثيرات الجنسية؛ لأنك إن لم تغض البصر أدركت،
وإن أدركت وجدت، وإن وجدت نزعت إلى الزواج أو التعفف بالكبت في النفس، وتعيش
اضطراب القلق والتوتر، وإن لم تتعفف عربدت في أعراض الناس.
وكذلك أمرنا الحق سبحانه ألا تبدي النساء زينتهن إلا لأناس حددهم الحق سبحانه
في قوله تعالى:
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ
نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ
أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا
عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(31)
(سورة النور)
أي: الذي بلغ من العمر والشيخوخة حداً لا يجعله يفكر في الرغبة في النساء.
وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلام وهو في فتوته، بعد أن بلغ أشده
نظرة مختلفة، يوضحها الله تعالى في قوله
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
(23) |